في ذكراه الثالثة والأربعين
مرت ذكراه في صمت مخز، تجاهله الإعلام الرسمي كعادته دوماً في تجاهل البنائين العظام لنهضة هذا الوطن. ثلاثة وأربعون عاما مرت علي وفاته في عام 1966.
إنه القصبجي، مبدع أجمل الألحان وأصعبها، وواحد من قليل نادر فهم معني «الهارموني» والتوافق اللحني وتعدد الأصوات، ويكفيه ويكفينا «رق الحبيب» التي شدت بها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، ولتعلن بها أنها الصوت الوحيد القادر علي أداء مثل هذا النوع من الفن المركب، وهو التركيب والتعقيد الممزوج بسلاسة تخص صوتا يمتلك طاقة وقدرة لا يمتلكها إلا الاستثناء، ولعل هرب كل مطرب أو مطربة من هذه الأغنية، ولجوءهم لأغنيات أخري من أغاني كوكب الشرق ليثبتوا عبرها أنهم أصحاب أصوات قادرة، هو دليل آخر علي مدي التعقيد اللحني في هذا العمل الذي يقف بندية بجوار أعمال موسيقية عالمية.
وهنا نحاول ـ كعادتنا ـ أن نعيد الاعتبار لواحدة من القامات الكبيرة في مجال الموسيقي والغناء العربي. يعد الموسيقار محمد القصبجي أحد الأئمة الكبار في عقد النهضة الموسيقية في مصر الحديثة التي شيدها محمد عثمان، وكامل الخلعي، وداود حسني، وسلامة حجازي ثم عبر بها النابغة سيد درويش إلي المدرسة التعبيرية في المضمون والهارمونية في الشكل.
بدأ القصبجي مرحلة جديدة وفاصلة في تاريخ الموسيقي والغناء في مصر والشرق كله، ويمكن اعتبار العام 1926 عاماً فاصلاً في الموسيقي العربية.
حيث قامت أم كلثوم بتحريض من القصبجي بالتخلي عن الشكل القديم الذي كانت تقدم به حفلاتها وكون لها تختا موسيقيا يضم مشاهير العازفين مثل سامي الشوا علي الكمان ومحمد العقاد علي القانون بالإضافة للقصبجي علي العود وفي نفس العام لحن لها مونولوج «إن كنت أسامح» تأليف أحمد رامي، معلناً ثورة كبيرة في عالم التلحين، فوضع مقدمة موسيقية بدلاً ما كان يعرف «بالدولاب» وهو مجرد دوران حول المقام الذي سيغني منه المطرب لتهيئة مزاجه والجو العام للأغنية وأصبحت المقدمة الموسيقية تقليداً راسخاً بعد ذلك في أغاني عبدالوهاب وغيره.
كما أدخل القصبجي الانتقالات اللحنية المفاجئة في اتجاه صاعد مما شكل بناء قوياً للألحان وأكسبها طابعاً يحمل ملامح متطورة استغل فيها القصبجي ثقافته العريقة في الموسيقي الكلاسيكية الأوروبية، لكن النقاد والجمهور علي السواء وجدوا في اللحن شيئا جديد ومألوفا وحققت هذه الأسطوانة مبيعات كبيرة تخطت المليون وهو رقم استثنائي في ذلك الوقت.
والمونولوج هو عمل منفرد ـ كما يدل اسمه اللاتيني ـ وتتدفق خلاله أحاسيس المطرب وتظهر قوة تمكنه من الأداء، وسيطرته علي انتباه الجمهور، ولذلك فإن هذا العمل أوجد مكانة محترمة لفن الغناء وللمطرب بعدما كان الجمهور يغني ويهلل ويصفق طوال الحفل، وأصبح مونولوج «إن كنت أسامح» جزءاً من التراث الموسيقي العربي ومن الشكل العام للأغنية العربية والمصرية الحديثة واستمر القصبجي في تقديم ألحانه المتطورة لأم كلثوم وأسمهان ونور الهدي وغيرهن.
فأم كلثوم غنت له مجموعة كبيرة في أفلامها مثل «نشيد الأمل» و«وداد» و«عايدة» ولكنها راحت تبتعد عن هذا الاتجاه، ربما لتمادي القصبجي في تجاربه الأوركسترالية حتي طغت علي صوت المطرب إلي حد ما، وربما لرفضه طلبها عدم التلحين لأسمهان التي كان يجد في صوتها الرنان مساحة كبيرة لألحانه واتجاهها للعمل أكثر مع السنباطي بكلاسيكيته الجديدة وزكريا أحمد بألحانه المصرية وبالفعل لم تغن له أم كلثوم لفترة طويلة، حتي قدم لها رائعته «رق الحبيب» عام 1944 بعد وفاة أسمهان بشهور وتعد هي الأخري مفرقاً جديداً في الغناء العربي وظل القصبجي رغم ذلك وفياً لها راضياً بمكانه كعازف عود في فرقتها حتي رحل في مارس 1966 دون أن ينال بعض حقه من التقدير والشهرة، فهو شخص يميل للعزلة بشكل عام، كما لم يمتلك صوتاً جميلاً ينافس به المطربين.
وعلي الرغم من إنجازات القصبجي الموسيقية إلا أن المكتبة العربية لا تحتوي إلا علي كتاب وحيد عن القصبجي للدكتوره رتيبة الحفني بعنوان «الموسيقي العاشق»، ترصد فيه كيف أسهم بشكل فعال في تشكيل ثقافتنا الموسيقية المعاصرة.
ويظل القصبجي ابن العالم الأزهري والمنشد علي القصبجي، معلما في تاريخ موسيقانا، لم تجره تلك الغربية إليها وهو الذي تربي وجدانه علي التجويد والموشحات، فكان هذا البناء اللحني المتطور الذي قدم أكثر من 1200 لحن في مسيرته الفنية <