الموسيقى في العصر العباسي (750-1258م):
عندما يذكر العصر العباسي يتبادر إلى الأذهان ذلك العصر الذهبي للعرب والمسلمين، الذي رغب فيه العباسيون أن يتفوقوا على أمجاد الساسانيين القدماء في بلاد فارس، فانتعشت على أيديهم العلوم والفنون مع انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد، وشيدت المعاهد والمعامل والمستشفيات. وقد روي لنا عن ولع الخلفاء العباسيين بالفن، حتى كادت بلاطات أمراء المؤمنين تتحول إلى معاهد ومجالس موسيقية، عدا عن الهبات والعطايا التي كان الخلفاء العباسيون يغدقونها على الموسيقيين.
هذه الأجواء حمست الموسيقيين وشجعتهم على المضي قدماً في رفع مستوى الموسيقى ومكانتها، من نواحٍ عدة تشمل الأداء الغنائي والبحوث والدراسات الموسيقية، حيث وصلنا في كتاب "رسالة في الموسيقى" لواضعه ابن منجم- أحد تلامذة اسحق الموصلي- بحثا قيما في السلم الموسيقى العربي الذي كان مستخدماً حتى القرن الخامس عشر، وهو مشابه للسلم الفيثاغوري الإغريقي، حيث أن العرب نهلوا من علوم اليونان الغزيرة عن طريق الترجمات التي بلغت أوجها في القرن التاسع الميلادي. ويعتبر عهد هارون الرشيد (786- 809 م) عهدا مليئا بالأمجاد والمحافل في الثقافة والآداب والفن، فقد اجتمعت في بلاطه أعظم المواهب الموسيقية أمثال إبراهيم الموصلي واسحق الموصلي وابن جامع وزلزل وغيرهم.
حتى القرن التاسع، بقي الغناء النشاطَ الموسيقي الدارج والغالب، إلى أن حمل القرن العاشر الميلادي نهجاً جديداً في الموسيقى العربية مكتسبا من الاختلاط بالفرس والمغول والأتراك، فشاع قالب (النوبة) الموسيقي الذي أتاح المجال للأداء الآلي، ومن بعد ذلك دخول الارتجال الموسيقي بصحبة آلات أخرى غير العود سيد الآلات، كالقانون الذي كثر استخدامه في سوريا في القرن العاشر، وكذلك الربابة. وما لبثت أن دخلت الموسيقى إلى المدارس والجامعات، وظهرت عن العرب نظريات موسيقية مجددة في أساليب الأداء والتلحين، حتى أن الغرب اعترف اعترافاً جلياً لا لبس فيه بأن العرب ألحقوا بالموسيقى قفزة نوعية، حيث استطاعوا أن يضعوا حوالي مائتي مصنف في سائر الفنون والعلوم الموسيقية في الفترة ما بين القرن التاسع والثالث عشر.
أما قنبلة النهضة الموسيقية فقد تفجرت في الأندلس ما بين القرنين الثامن والخامس عشر، بدخول الإسلام إلى الأندلس عام 713 م وإقامة خلافة أموية منفصلة عن الخلافة العباسية في بغداد، تتخذ قرطبة عاصمة لها، فأنشأت في القرن التاسع الميلادي مدارس كان المقصد منها أن تتفوق على مدارس بغداد، وتـُوج إنشاء المدارس والمعاهد بإنشاء أول كلية موسيقية في سالامانك. وأصبحت قرطبة بؤرة للثقافة الموسيقية، وصدحت فيها وفي غيرها إبداعات إمام الغناء العربي زرياب الذي تلقن أصول الموسيقى الفارسية والعربية على يد الموسيقار الفذ اسحق الموصلي.
وما أن بدأت تهمد نيران هذه النهضة في القرن الخامس عشر حتى تلقفها الغرب وأعاد إشعالها في أوروبا في أوائل القرن السادس عشر، فانتقل شذا الأساليب الشرقية في الألحان والشعر، وتسربت الإيقاعات المغربية إلى إنشاد شعر التروبادور الفرنسي، وترافق هذا مع انتقال آلات الموسيقى العربية كالعود والقيثارة والطنبور إلى أوروبا. وما العلوم الموسيقية إلا نقطة من بحر ما أخذ الغرب عن العرب من نظريات وبحوث في مختلف حقول العلم، مما أسفر عن تحريك آليات التطور والتحضر في أوروبا بعد أن كانت تترنح في عصر الظلمات.
لا يتم التأثر بلا تأثير. فبعد انهيار حضارة العرب في الأندلس انتقل عدد كبير من سكانها إلى شمال إفريقيا، وتغلغلت آثار الموسيقى الأندلسية في رحاب موسيقى هذه الشعوب، وحل الطرب الأندلسي ذو الطابع الديني والفني كجزء من تراث هذه الشعوب، يمدح ويتغزل ويمازح ويمتزج مع الموعظة المستمدة من الشعر الصوفي العريق. ثم تطعم هذا اللون من الفن بتأثيرات شرقية أخرى، فأصبح يعرف في المغرب باسم (الآلي)، تمييزاً له عن الفن الذي يعتمد على أصوات المغنيين فقط، ويطلق عليه في الجزائر اسم (الصنعة الجزائرية)، أما في تونس وليبيا فيسمى (المألوف).