كان الإنشاد خلال القرن العشرين يسجل وينتج من أجل الاستهلاك كسلعة إعلامية، على الأسطوانات أولاً، ثم على أشرطة الكاسيت فيما بعد. وهذه التسجيلات باعتبارها تجارية، كانت فى كثير من الأحيان تسجل فى الاستوديو، وكانت مقتطعة من السياقات المعتادة التى تعرف الأداء بأنه "إنشاد". والمنتجون لا يؤكدون أن التسجيل إنشاد بتقديم الأصوات والنصوص المناسبة وحسب، بل كذلك عن طريق التكوين الرمزى الدقيق على غلاف الشريط. فالمنشد، الذى يعَرَّف بأنه "الشيخ" فلان، يصور فى وضع محتشم، وهو يرتدى ملابس المشايخ، وغالباً ما تكون الصورة مركبة على لوحة فنية تتزاحم فيها الرموز الدينية كالصور الفوتوغرافية للأماكن المقدسة والمساجد والمآذن والأهلة والنقوش العربية.
وفى الغالب كان الإنشاد يسجل من أجل استهلاك المصريين أنفسهم، لا من أجل جمهور الدارسين أو جمهور الموسيقى العالمية فى الغرب؛ فهذه الأشرطة صناعات مادية خاصة بالثقافة المصرية. وعند الاستماع إلى هذا الإنشاد المسلع، يعيش المرء مع عناصر صوتية من عالم مصر. ومع ذلك لا بد أن يعى المستمع أن اعتبارات التسويق، والإمكانيات التى تقدمها الاستوديوهات وتكنولوجيا التسجيل، والرقابة الحكومية، قد تجعل هذا الإنشاد مختلفاً بعض الشيء عن النسخة الحية المقابلة له ـ إن كان لهذه النسخة وجود أصلاً. وهناك أنواع بكاملها من الإنشاد (أبرزها التواشيح الدينية) متوفرة على كاسيتات، ولكنها لم تعد تؤدى حية. وعلى العكس من ذلك، فإن منتجات صناعة "الموسيقى العالمية"، وإن كانت بقدر أعلى من الدقة فى نقل الأصوات ومتحررة من القيود الحكومية المصرية، فهى تُختار وتُعدَّل بحيث تناسب الأذواق المفترضة فى سوق الموسيقى العالمية الغربية. وهذه التسجيلات قد تحاول تمثيل الثقافة المصرية، ولكنها ليست جزءاً منها.
التراث القديــــم
حتى بداية القرن العشرين، كان الأداء الدينى والطرب متداخلين فى الغالب الأعم، وكانا يشكلان معا ما يسمى الآن بالتراث القديم. وكان التعليم يبدأ فى الكُتَّاب، حيث كان التلاميذ يتعلمون تلاوة القرآن ويحصلون على معرفة أساسية باللغة العربية الفصحى والأدب العربى الفصيح. وكان ذلك التعليم هو أساس تدريب كل المغنين تقريباً ؛ وكثير منهم بدأ بغناء التراث الغنائى الديني، ومن ثم كانوا يعتبرون "من المشايخ".
وبناء على ذلك كان الإنشاد والغناء قريبين من بعضهما فى كثير من الأحيان، وكان الواحد منهما لا يميز عن الآخر فى كثير من الأحيان، فى تلك الفترة. فلا نكاد نميز شعر الغزل العفيف (الموشحات والقصائد) عن الشعر الروحاني، وخاصة شعر الطرق الصوفية. وكان المجتمع الذى يغلب عليه التدين يفضل أداء الشعر الروحاني، ليس فقط فى مناسبات دينية بعينها (مثل ليالى رمضان أو العيدين أو المولد النبوى)، بل كذلك فى المناسبات الاجتماعية الاحتفالية كالأعراس. وعلى العكس من ذلك، كان الغزل الدنيوى السامى "يستعار" من أجل الاستخدام الروحاني، وكذلك التوزيع الموسيقى الدنيوى. كما كانت الأساليب الموسيقية قريبة من بعضها كذلك. وكما هو الحال بالنسبة للمنشد، كان المطرب يصاحبه كورس (يسمى المذهبجية)، وكثيراً ما كان ينادى بالشيخ. وكانت العادة أن تتضمن ذخيرة المطرب الغنائية أغانى دينية صرفة وقصائد غزل عفيف، وكان يمزجهما فى عرض واحد.
وأكثر أنواع الإنشاد تسجيلاً فى أوائل القرن العشرين هى التواشيح الدينية والقصائد الدينية. وفى التواشيح كان الأداء يتم بالتناوب فى تضاد صوتى بين المنشد الرئيسى باعتباره المنشد المنفرد، بأسلوب مزخرف ارتجالى غير موزون (وهذا الجزء يسمى أحياناً ابتهالات)، والكورس، مستخدماً ألحاناً معقدة مؤلفة من قبل فى إطار شبه موزون. ويمكن للمنشد المنفرد كذلك أداء قصيدة كاملة بالفصحى بالأسلوب المنفرد؛ وهذا النوع يسمى عامة بالقصيدة الدينية (أو الابتهالات، عندما تكون الفكرة هى الدعاء والرجاء). وقد يضاف لأى من النوعين مصاحبة آلية خفيفة.
وليس من قبيل الصدفة أن بعض النماذج الحسنة من التراث القديم، وإن كانت قليلة نسبية، قد سجلت، لأن ظهور صناعة الموسيقى كان فى بداية القرن العشرين، فى أعقاب تطور البنية التحتية التكنولوجية والاقتصادية اللازمة، حيث حفظت هذه الأنواع وحددت المسار الحتمى لتدهورها فى العقود التالية. ومن بين أعظم المؤدين الذين سجلت أعمالهم الشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ درويش الحريري، والشيخ أبو العلا محمد، والشيخ على محمود، والشيخ محرز سليمان، والشيخ إبراهيم الفران.
التواشيح الدينية المتأخرة:
استمر أداء التواشيح الصوتية الخالصة (ومنها الابتهالات والقصائد الدينية) حتى منتصف القرن العشرين، وإن ازداد انفصالها عن التيار العام للطرب. فقد كان الطرب موجهاً فى المقام الأول نحو الترفيه الدنيوي، وتخلى شيئاً فشيئاً عن التواشيح باعتبارها "أساساً تدريبياً" للمطربين الجدد، وخاصة مع انتشار المدارس الدنيوية، واختفاء الكُتَّاب بعد ذلك. وفى الوقت نفسه، قلت شعبية التواشيح الجادة كترفيه للمناسبات الاجتماعية. ونتيجة لذلك صارت التواشيح فى نهاية الأمر تعد دينية بحتة، دون أن يكون لها أى دور شعائرى مهم؛ ولم يكن المؤدون مثل الشيخ طه الفشنى يغنون موسيقى الطرب، كالجيل السابق من المشايخ. وعندما لم تحظ التواشيح بدعم المناسبات الاجتماعية ولا صناعة الموسيقى المزدهرة، ولا الشعائر الإسلامية، تدهورت تدهوراً حاداً خلال الربع الأول من القرن العشرين. واليوم قد تسمع التسجيلات فى الإذاعة، وخاصة فى المناسبات الدينية، إلا أن التواشيح نادراً ما تؤدى أداء حياً؛ وتستمر القصائد الدينية كابتهالات شعائرية (كما سيأتى فيما يلى)، وفى سياقات صوفية. وغالباً ما يعتبر الذواقة الشيخ طه الفشنى أعظم من تخصص فى التواشيح فى القرن العشرين؛ إذ إن صوته مذهل. ومن التسجيلات الشهيرة الأخري، تلك الخاصة بالشيخ محمد الفيومي، والشيخ نصر الدين طوبار. وهذه التسجيلات، التى تعتبر الآن نخبوية وتعبيرا سائدا عن الشعور الإسلامي، هى فى واقع الأمر جزء من تراث كان يمارس فى يوم من الأيام على كل المستويات الاجتماعية (وما زال يروق لها)، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث الصوفي، وكذلك بجذور الموسيقى العربية الدنيوية المعاصرة. وتنطبق الملاحظات ذاتها على الابتهالات الشعائرية