هذه العلاقة الحميمة التي ربطت بين فؤاد زكريا وفن الموسيقي, ربما بدت لبعضنا غريبة بعض الشيء, أو محتاجة لتفسير.. ففؤاد زكريا مفكر يشتغل بفن يعد أقرب فنون الفكر للمعرفة الموضوعية التي يتجرد فيها الإنسان من ميوله وعواطفه, ليعرف الموضوع الذي يتصدي له معرفة صحيحة بالمقاييس المشتركة بين البشر جميعا علي اختلاف ثقافاتهم, وهي المقاييس العقلية المنطقية التي نستخدمها في طرح الأسئلة وتحديد المشكلات والوصول إلي إجابات صحيحة مقنعة.
وفي هذا تختلف الفلسفة عن العلم التجريبي الذي نتعرف به علي الوقائع الجزئية ونسيطر به علي الطبيعة, وتختلف عن الفن الذي نتلقاه بكل ملكاتنا, فنتذكر ونتخيل وننفعل ونتصل اتصالا حميما بالعالم وبما وراء العالم.. الفلسفة عقل صارم, والفن انفعال ووجدان.. فكيف اجتمعا في فؤاد زكريا؟
ولو أن فؤاد زكريا كان مجرد مستمع يحب الموسيقي ويتذوقها ويجمع بينها وبين اشتغاله بالفلسفة, لما أثار استغراب أحد, لأن المتعة الفنية حاجة إنسانية مشتركة, مهما يكن النشاط الذي يتخصص كل منا فيه ويجعله عمله الأول وحرفته الأساسية.
ونحن نعرف أن كبار الفلاسفة اهتموا بالموسيقي وتحدثوا عن مكانها في الحضارة ودورها في حياة الفرد والجماعة, وإذا كانت الحضارة الإنسانية قد ميزت في مراحل نضجها بين ما نعرفه بالعقل, وما نعرفه بالقلب, وما نعرفه بالتجربة, فهذه المعارف كلها وجوه متعددة للنشاط العقلي. ونحن نطرب للمنطق السديد, ونقتنع بالنغمة الرائعة.
ولقد كان سقراط نحاتا, أخذ فن النحت عن أبيه.. فلما صار فيلسوفا كان يحلم بأن يصبح موسيقيا, وقد اشتغل الفلاسفة بالطب, فالحكيم طبيب, والطبيب حكيم.. ومكان الشعر في الفلسفة لا يقل عن مكان المنطق فيها, وكما أن للفن مكانه في حياة الفلاسفة وفي إنتاجهم, فالفلسفة لها مكانها في حياة الأدباء والفنانين وفي أعمالهم.. وهل نستطيع أن نفصل بين شعر المعري وفلسفته؟.. أو نفصل في أوبرات فاجنر بين الألحان والأشعار والمناظر؟.. بل لقد جمع فاجنر بين موهبة الشاعر, وموهبة الملحن, وموهبة الناقد والفيلسوف.
وربما كانت الموسيقي أقرب الفنون إلي الفلسفة, لأن الموسيقي أصوات مجردة ولا تعني بذاتها أي شيء. والفلسفة كذلك أفكار مجردة تعلو علي الوقائع الجزئية والحالات الفردية.
وبوسعنا إذن أن نفهم تلك العلاقة التي ربطت بين فؤاد زكريا والموسيقي مند كان صبيا في العاشرة من عمره. ففي تلك السن نجح في صنع آلة موسيقية بدائية ـ كما يصفها ـ من صندوق مستطيل من الصفيح شد عليه خيوطا من الجلد المطاط الرقيق وراعي في الشد أن يكون متدرجا بما يجعل كل خيط مناظرا لنغمة في السلم الموسيقي.. وقد استطاع أن يعزف علي هذه الآلة البدائية ألحانا شجية مما كان شائعا في ثلاثينيات القرن الماضي.
واستطاع فؤاد زكريا بعد ذلك بسنوات أن يقنع أسرته بشراء مندولين كان يجيد العزف عليه.. كما تعلم أن يقرأ المدونات الموسيقية, وأن يدون الألحان التي يسمعها.. وهكذا ظل يتقدم في هذا الطريق بخطي واسعة حتي انفتح له عالم الموسيقي السيمفونية, خصوصا بعد أن التحق بقسم الفلسفة في كلية الاداب بجامعة فؤاد الأول.
تلك هي السنوات الذهبية ـ أربعينيات القرن الماضي ـ التي بدا فيها أن النخبة المصرية المثقفة قد نجحت في خلق مناخ فكري تستطيع مصر فيه أن تتحرر من ماضيها العبودي البائس, وتلحق بالركب الإنساني المتقدم وتأخذ مكانها فيه.. وهو الأمل الذي بددته أحداث السنوات التالية.
لكن التحاق فؤاد زكريا بقسم الفلسفة في كلية الآداب فرض عليه أن يختار بين الانصراف للفلسفة والانصراف للموسيقي, فاختار الفلسفة, وإن ظل عاشقا وفيا للموسيقي.. ذكرياته حافلة بالأعمال التي استمع إليها, والفرق التي حضر حفلاتها في عواصم عالمية مختلفة, ومكتبته حافلة بالتسجيلات والمراجع التي تتحدث عن الموسيقي والموسيقيين.. وقد أصدر هو نفسه ثلاثة كتب عن هذا الفن الذي عشقه ولم يستطع أن يشتغل به.
وقد بدأ فؤاد زكريا هذه الإصدارات بكتاب عن التعبير الموسيقي, ثم أتبعه بكتابه مع الموسيقي, الذي تحدث فيه عن علاقته بهذا الفن وذكرياته معه, كما تحدث عن الإيقاع حديثا مستفيضا رائعا, وعن الموسيقي الشعبية, ومستقبل الموسيقي في مصر, أما كتابه الأخير فقد اختار له موضوعات تتصل فيه الموسيقي بالفلسفة, هذا الموضوع هو الموسيقار الألماني ريتشارد فاجنر, الذي تتلمذ علي شوبنهور, وجمعت بينه وبين نيتشه صداقة حميمة تأثر فيها كل منهما بالآخر, وأفسح له مكانا في إنتاجه, فكلاهما قومي ألماني متحمس.. وكلاهما شديد الإعجاب بالتراث اليوناني.. وكلاهما ساخط علي تراث الساميين.
ولقد بدا لي كتاب فؤاد زكريا عن فاجنر استكمالا لدراسته الفلسفية عن نيتشه أو تعبيرا آخر عن فهمه لهذا الفيلسوف ولثقافة القرن التاسع عشر الأوروبي بشكل عام.. فثقافة القرن التاسع عشر هي ثقافة الثورة التي شملت كل مجال, وسعت إلي تحرير الإنسان من العصور الوسطي وثقافتها الخرافية ونظمها المستبدة.
في القرن التاسع عشر استطاعت الثورة الفرنسية أن تهز العروش, وتحطم الأغلال, وترفع علي الأرض راية الحرية, والمساواة والإخاء.
وفي القرن التاسع عشر انتصرت الدولة الوطنية علي الدولة الدينية, وانتصر العلم علي الخرافة, والرومانتيكية علي الكلاسيكية.. ووقف فيكتور يدافع عن الجمهورية في فرنسا.. وألف بتهوفن سيمفونيته الثالثة يحيي فيها نابليون رسول الثورة قبل أن يصبح إمبراطورا فينقلب عليه وكما وقف بتهوفن إلي جانب الثوار الفرنسيين, وقف فاجنر إلي جانب الثوار الألمان.
أريد في النهاية أن أقول إن المثل العقلانية الرفيعة التي قادت فؤاد زكريا ليشتغل بالفلسفة, هي المثل الرفيعة التي قادته للموسيقي الكلاسيكية, وجعلته واحدا من أخلص عشاقها ومحبيها.
الفلسفة أخلاق بالمعني العميق لهذه الكلمة.. والموسيقي أيضا أخلاق بهذا المعني.. فلا غرابة إذن في أن يكون محب الحكمة محبا للموسيقي!
الاسم : ساره عبد العاطي
http://forum.egypt.com/arforum/%E3%DE%C7%E1%C7%CA-%D5%CD%DD%ED%C9-f563/%C7%E1%DD%E1%D3%DD%C9-%E6%C7%E1%E3%E6%D3%ED%DE%ED-%C8%DE%E1%E3-%C3%CD%E3%CF-%DA%C8%CF%C7%E1%E3%DA%D8%ED-%CD%CC%C7%D2%ED-133708.html