روافد الفكر الموسيقي العربي.. بين القديم والحديث

بالرغم من انتماء الموسيقا العربية, الى منظومة موسيقات الشرق عموماً, إلا أن هذا الانتماء قد تحقق بعد أن رسم الموسيقي العربي مسارات ومسالك هذا الفن في طريق طويل وحافل من الابداعات والارتقاءات بما ميز خصوصية وتفرد هذه اللغة الموسيقية العربية التي تواترت ابداعاتها منذ الممالك العربية القديمة لتشكل احدى اهم عناصر الروح الابداعية العربية التي اغنى ألوانها المشرقة رواد كبار واعلام مبدعون على مر تاريخ هذا الفن,



‏

اغنوا الفكر الموسيقي العربي- قديماً وحديثاً- كما سنرى, بأبحاث وعلوم رائدة ومبتكرة جاءت كنتيجة مثلى لتنوع الروافد والحوارات انعكست بشكل واسع وعريض على الحياة الموسيقية العربية, بشقيها التقليدي والشعبي, وهوما وجه الفكر الموسيقي نحو عوالم ومدارات ابداعية خصبة وفرتها الابحاث الموسيقية الاغريقية ومن بعدها الفارسية أطرت هذه الروافد والحوارات في مشهد ابداعي ممتد كان فيه الموسيقي العربي دائم الترحال والحج الموسيقي المثمر نحو تلك المدنيات التي قدمت في حقيقة الامر عطاءات خصبة, استفادت منها الموسيقا العربية بشكل مؤكد لايختلف عليه احد. وعن هذه الرحلات المثمرة يخبرنا الأديب الموسوعي أبو الفرج الأصفهاني في موسوعته الشهيرة الاغاني, عن اسماء مبدعة أقامت جسراً موسيقياً متواصلاً مابين الموسيقا العربية ونظامها الخاص وبين موسيقا الشعوب المجاورة من بينها (ابن مسحج, وابن محرز, ونشيط الفارسي)وغيرهم ممن تنبه الى اهمية قيام هذه الحوارات في تثوير الفكر الموسيقي العربي, الذي وصل الى قمة عطائه وابداعه مع ابحاث الفكر الفلسفي القديم; هذا الفكر الذي وصل بالموسيقا العربية الى ذروات ابداعية عظيمة خاصة بعيد الالتحاق بركب العلوم الرياضية المشهورة (الحساب, الهندسة, الفلك) في مسعى جدي وحثيث لفهم علاقة الانسان بالكون, ومن خلال هذا الفكر الفلسفي قدم(الكندي , الفارابي, ابن سينا, وجماعة إخوان الصفا) ثروة معرفية موسيقية شاملة منحت هذا الفن خصوصية وتفرد, فجرت لغته الموروثة, التي تم رفدها بارتقاءات مهمة على مستوى العلم والنظرية وتصنيف الآلة, بما حقق انجازات ومدارس ابداعية ساهمت بدورها - لاحقاً- في إغناء الحياة الموسيقية لعدد من الشعوب وخاصة في الاندلس واوروبا كما تؤكد المصادر التاريخية, والموسيقية, ولعل هذا المنجز الابداعي الأصيل ما كان له أن يحدث بصمته وتأثيره العميق لولا موسوعية هؤلاء الرواد الفلاسفة وتقديمهم الروح الابداعية العربية خاصة مع توفر المناخ العلمي الشامل الذي أفضى الى اثراء الحياة الثقافية العربية بمشاهد موسيقية غاية في الجمال والابداع الموسيقي الراقي.‏

-وفي موازاة هذا الجانب العلمي في الموسيقا, كتب هؤلاء الرواد مؤلفات موسيقية بدأت مبكراً مع ابداعات يونس الكاتب والخليل بن احمد الفراهيدي وتواترت صعوداً الى ان وصلت الى قمة عطائها وتأثيرها في العصر العباسي الذي وصلت معه الموسيقا العربية كعلم وفن الى مصاف الفنون الراقية في الامبراطورية الاسلامية المترامية الأطراف, وفي هذا العصر تحديداً تقدمت الابحاث والعلوم الموسيقية خاصة بعد الترجمات الوافية والمستفيضة لأبحاث الموسيقا الأغريقية التي ابتدأت بشكل مثمر وخصب مع الفيلسوف العربي العظيم( الكندي) وتلامذته الكثر, ومن خلالها تم رفد الفكر الموسيقي العربي بإغناءات علمية ومعرفية ممتدة , انعكست على روح الكتابة اللحنية والنغمية في ثنايا الحياة الموسيقية العربية وهوما استمر متدفقاً ومتواتراً مع الاسهامات المضيئة للمفكر الفيلسوف المعلم الثاني( الفارابي) الذي قدم بدوره اعظم الانجازات الخالدة لتاريخ الفكر الموسيقي العربي سواء أكان ذلك على مستوى العلم النظري بحثاً وكتابة أم على مستوى التأليف وتصنيف الآلة وهوما اعطى نتائج عميقة رفدت الحياة الموسيقية بإغناءات غير مسبوقة وهذا ما سار عليه بإبداع قل نظيره الشيخ الرئيس ابن سينا الذي ترك آثاراً علمية موسيقية مبتكرة, خاصة ابداعه المتفرد في مجالات التأثير النفسي للنغم الموسيقي, بالطبع لم تتوقف الروافد عند هؤلاء الفلاسفة الكبار بل تخطتهم لتصل الى موسيقيين محترفين كان لهم دور عظيم في ارتقاء الحياة الموسيقية العربية بعلوم ونظريات وكتابات لحنية اثمرت على كافة المستويات والاتجاهات الموسيقية ويكفي أن نذكر في هذه العجالة اسماء( منصور زلزل واسحاق الموصلي وزرياب وصفي الدين الأرموي ويحيى بن المنجم وابن زيلة واللاذقي وابن الطحان) وغيرهم من اعلام قدموا عطاءات خالدة لتراث الموسيقا العربية الذي جف وهج الابداع فيه بعيد انحطاط وسقوط الدولة العباسية وان لم يتوقف بشكل نهائي, حيث تواصلت على فترات متقطعة الكتابات العلمية والنظرية الى ان وصلت الى العصر الحديث بما قيض له من اعلام رواد تابعوا المسيرة بكل ابداع وقدموا بدورهم عطاءات مهمة ابتدأت مع الكتابات العلمية المبكرة بدايات القرنين الثامن والتاسع عشر, ومن خلالها تم إرساء قواعد جديدة ومبتكرة لهذا الفن, حيث لعبت فيها الموسيقى التركية دوراً لايستهان به على مستوى المنظومة المقامية والايقاعية والرموز والمصطلحات والآلات والقوالب التي دخلت بشكل طبيعي قلب الحياة الموسيقية المعاصرة, لكن هذا التأثير بقي محدوداً بالرغم من تبادل الأدوار فيه مع الموسيقى العربية التي أثرت بدورها في الموسيقى التركية بما تؤكده المصادر التاريخية التي تؤرخ للابداع الموسيقي العربي والتركي في هذه الحقبة, التي يحلو للبعض بأن يجعلها حقبة مظلمة بسبب طغيان الروح الطربية الحسية التي سادت الغناء العربي فترات طويلة كنتيجة للمد الموسيقي التركي في قلب وثنايا الحياة الموسيقية العربية مع ان هذه الفترة كانت أيضاً فترة خصب موسيقي وغنائي حقيقية ويكفي للدلالة على ذلك ان نذكر اسهامات غنية وممتدة قام بها اعلام رواد كبار ممن تتلمذ على ابداعات الموسيقى التركية امثال الخالد الذكر ابو خليل القباني والشيخ العلامة علي الدرويش والوشاح الكبير عمر البطش والشيخ عثمان الموصلي وابداعات الشيخ سلامة حجازي وعبده الحامولي وسيد درويش وقائمة طويلة من المبدعين العرب الذين أفادوا من إغناءات الموسيقى التركية محاولين ان يرفدوا الحياة الموسيقية العربية بمؤثرات موسيقية خصبة لعبت فيها الاحداث الاجتماعية والسياسية دوراً مؤثراً في انتقال الموسيقى العربية الى محطات حداثية انقلبت على التقاليد الموروثة بما أطر لاحقاً المدرسة الموسيقية العربية المعاصرة التي رسم ملامحها المضيئة الخالد الذكر الشيخ سيد درويش الذي امتلك وعياً وفكراً موسيقياً مرموقاً قدم من خلاله منجزات موسيقية وغنائية غير مسبوقة خاصة في ارتحاله الفكري نحو الموسيقى التركية من خلال زياراته العديدة لبلاد الشام او من خلال الموسيقى الغربية الكلاسيكية التي تعرف عليها من خلال الاوبرا والاعمال الموسيقية العديدة التي كانت تقام في القاهرة وبعض المدن المصرية بما اعطاه رؤية اوسع واشمل في مجال الكتابة اللحنية التي توسعت‏

واغتنت مع كتاباته المبهرة للمسرح الغنائي العربي وفيها استخدم كل ادواته الموسيقية المتاحة من علوم موسيقية عربية وغربية طعمها بقيم صوتية وتعبيرية وفرتها اللغة الحداثية التي بدأت تسود المشهد الموسيقي العربي آنذاك. هذا النهج الموسيقي العظيم تواصل مع اسماء موسيقية مبدعة كان لها اسهامها وحظها من العلم والابداع الموسيقي منها نذكر محمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الاطرش والرحابنة وغيرهم ممن أمد النسيج النغمي العربي بألوان مشرقة ومضيئة اعتمدت في كثير من تفاصيلها على العلم الموسيقي الغربي وعلى ادوات ورموز كان لها دور مهم وعميق في تثوير الفكر الموسيقي العربي المعاصر الذي تحققت من خلاله ملامح العصر الذهبي الثاني للموسيقى العربية, بعد العصر الاول في الامبراطورية العباسية, هذا العصر الجديد حفل بانجازات موسيقية موسومة بالبعد التعبيري والجمالي وإغناء الذائقة عبر اعمال تنوعت مابين الوطني والديني والعاطفي وصلت معها الكلمة واللحن والصوت الى قمة العطاء والتفرد.‏

وهكذا نرى كيف تنوعت روافد الفكر الموسيقي العربي عبر تاريخه الطويل ومن خلاله تم إرساء قواعد منهجية راسخة لهذا الفن اثمرت عن مشهد طويل من الابداع والتميز على مستوى الكتابة العلمية واللحنية انتقلت عبره الموسيقى العربية من الارتجال والعشوائية الى النظام الموسيقي العربي الذي شكلته ورسمت ملامحه ابداعات هذا الفكر الذي منحنا على مر تاريخه كل هذا الجمال الموسيقي الممتد والخالد على مر الزمان.‏