كلما استمعت إلى موسيقى محمد عبد الوهاب , اشعر بالنشوة والاعجاب نتيجة شحنة الجمال في جُمل موسيقية يختارها الفنان بعناية بالغة وينسج حولها المناخ اللحني الذي يُطوع كل شئ لقالب من الاحساس الجميل والمرهف . وقد تكون في الجُمل التي يقدمها الموسيقار بعض الاصداء لأخرى معروفة في ألحان قدمها موسيقيون عالميون . وعندما استمع إلى بعض المقطوعات الكلاسيكية تقفز إلى ذهني بعض جُمل عبد الوهاب التي اقتبسها وأدخلها في ألحان له . وهذه العملية ليست سرقة أو اقتباساً , وإنما تأثر بنهج موسيقي غربي انفعل به الفنان وأدخله في شريط اعماله اللحنية .
عبد الوهاب كان مشغولاً بالتطوير , لذلك استمع إلى الموسيقى العالمية في ألوانها المختلفة , كما إنه اهتم بالآلات الموسيقية مثل : الجيتار والبيانو والكلارينيت والماندولين والساكس إلى آخر هذه الآلات التي ظهرت في بيئات غير شرقية ونقلها الموسيقار المصري وغيره من الملحنين إلى العالم العربي . استعان عبد الوهاب بهذه الآلات في أعماله لأنه كان مهتماً بإخراج التخت الشرقي من الحالة التي استمر عليها لعدة قرون .
ويمكننا وصف دور عبد الوهاب في الموسيقى بأنه يتشابه مع ما قام به رفاعة الطهطاوي في الفكر والثقافة وتطلعه إلى الغرب , وهو الشيخ المعمم الذي ذهب إلى باريس في مهمة رسمية وهي مرافقة البعثة الطلابية التي أرسلها الوالي محمد علي إلى العاصمة الفرنسية . وكانت مهمة الشيخ تعليم الطُلاب قراءة القرآن الكريم والإلتزام بالتعاليم والعادات الإسلامية , لكن الطهطاوي إنبهر بالدستور الفرنسي والحياة الباريسية في تحقيق المساواة والحرية وتطبيق مناهج العلم الحديث وتأكيد حقوق الإنسان والإهتمام بها . وعندما عاد الطهطاوي من فرنسا وجد أن خلاص مصر هو في تطبيق مناهج باريس على حياة المصريين .
وليس رفاعة فقط هو الذي غرف من وعاء الغرب , فهناك د . طه حسين , الذي وجد أن طريق التقدم لابد وأن يمر عبر الانجازات الحضارية الغربية التي تعرف عليها بدوره عندما كان في باريس . وسار في الدرب نفسه توفيق الحكيم , الذي بهرته الحضارة الغربية . ويقف في قلب هذه المجموعة د . حسين فوزي , الذي قدم لنا الموسيقى الكلاسيكية عبر برنامجه في الإذاعة المصرية . وكان بجانب ذلك يُدرِس العلوم والاكتشافات الحديثة في جامعة الإسكندرية , ويبحث في التاريخ المصري القديم وسجل أوراقه في كتابه < سندباد مصري > .
كان الغرب هو نافذة نُطل منها للإطلاع على مرافق الحياة الحديثة كلها من أدب وفن وموسيقى . وعبد الوهاب لم يدرس في الغرب ولم يتعلم الموسيقى في معهد متخصص , لكنه تتلمذ على ألحان الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وغيرهما من أعلام الموسيقى الذين سبقوه . ويتمتع عبد الوهاب بشغف المعرفة الموسيقية والولع بها , مثله كأم كلثوم التي جاءت من قرية داخل محافظة الدقهلية , ولم تدخل المدارس النظامية , لكنها حفظت القرآن الكريم , وكان لديها الطموح الجارف لتعليم نفسها وتثقيفها والإلتقاء مع علماء ومفكرين وشعراء نبغوا في عصرها مثل أحمد شوقي ورامي وغيرهما من الأعلام .
هذا الجموح نحو التعليم والانفتاح والتثقيف , سمة بارزة ميزت حياة المصريين وتطلعهم إلى ركب الحضارة الحديثة . هذا قبل سنوات التدهور والإندفاع نحو غلق منافذ العبور إلى الغرب والكف عن الحوار معه , نتيجة سياسات غربية تطبقها حكومات جاهلة وباطشة .
والغريب أن الجموح المصري في سنوات النهضة المبكرة نحو الغرب , كان خلال فترة الاستعمار ووجوده على الأرض المصرية وهيمنته على الحياة فيها وتحكمه في اقتصادها .
كان لدى بعض الطبقات الطموحة الأمل لتلقي العلم لهزيمة الاستعمار على الأرض وبالسلاح نفسه الذي استخدمه لتحقيق انطلاق حضارته . لكن النكسات الشديدة وتدهور الأوضاع قلب المعادلة وأصبحت العودة إلى الوراء هي الحل لإعادة فرض أقانيم حضارية تستلهم الماضي بكل زخمه وأحلامه .
وعندما استمع إلى موسيقى محمد عبد الوهاب تطوف في الذهن سمات مجتمع كان يطمح إلى كسر دائرة التخلف بالإندفاع نحو النموذج الغربي بالكامل . وكان الموسيقار الراحل نفسه يعي دوره في التعبير عن فئات جديدة في المجتمع , يمكن وصفها بالطبقة الوسطى الصاعدة في الثلاثينيات والأربعينيات وما يُعبر عنه بطبقة الأفندية والمتعلمين من أطباء ومحاميين وصحافيين . ويظهر ذلك في أفلام المطرب والملحن السينمائية القليلة التي شارك في بطولتها , حيث مجتمع الأثرياء الجدد وانعكاس ذلك على مستوى الرقي العام من اساليب وأداء وملبس وطريقة حياة .
كان عبد الوهاب يقول بأن جمهور أم كلثوم من التجار وأصحاب العقارات والأراضي وأعيان الريف , بينما جمهوره من أفندية المدن والمتعلمين الذين كانوا يحبون الموسيقى الحديثة , حيث تختلط ألوان الجاز مع الثقافة الكلاسيكية , ومزج كل ذلك في صيغة شرقية ترضي الأذواق وتتحرك بطريقة حية متجددة .
لقاء عبد الوهاب مع أم كلثوم في الستينيات يُعبر عن مصالحة بين العالمين في عصر جديد تحت لواء ثورة يوليو وجمال عبد الناصر , الذي كان أكثر انحيازاً لمفهوم التقدم مع طبعه بالاستقلال الوطني .
وعندما لحن عبد الوهاب لأم كلثوم أغنية < إنت عمري > كان العناق مع مدرستين , واحدة تقليدية يُشكلها لون الست الغنائي , والأخرى لمسيرة صاحب الجندول الطويلة في التجديد والمغامرة اللحنية التي طورت من ذوق المصريين وجعلتهم أكثر قبولاً للفن الحديث .
ومن الأهمية ذكر أن مصر خلال الستينيات كانت تقيم معاهد الموسيقى العليا وتدعو الفرق العالمية للعزف وتكوين المناخ القابل لاستيعاب أدوات الفن المعاصر . ويعود الفضل في ذلك للدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق الذي وضع علامات فن النهضة المصري في عصر مختلف , أصبحت فيه فرص الحياة متاحة أمام الجميع . ويكفي أن أولاد الفقراء دخلوا الكونسيرفتوار ومعاهد الباليه والغناء الأوبرالي . وحققت هذه الفترة فكرة المساواة مع إعطاء الموهبة الفرصة .
وقد انتهت كل هذه الوثبة بإنهيار النظام الذي شجع على مغامرات الفن . ومع الانحصار برزت الألوان الهابطة ثم جاءت فتاوى تحرم الفن والغناء والموسيقى وتحبذ فقط الدق على الدفوف ورفض حتى الإنشاد الديني بإعتباره بدعة ! .
والاستماع إلى موسيقى محمد عبد الوهاب هو تجديد العودة إلى شريط مصري كان غارقاً في نهر الطموح والثقة والإيمان بالقدرة على اللحاق بركب العصر . والانصات إلى ألحان الموسيقار , هو لمس نوعية الحياة المصرية التي كانت قائمة في القاهرة والإسكندرية , حيث دور السينما والمسارح والمقاهي وحياة ممتلئة بالأمل ومنفتحة على الحرية والإبداع بهذا الشكل الجميل .
وعندما تمر بشارع عماد الدين , تشعر بأنه كان في يوم ما حياة صاخبة بألوان الفن وفقرات الموسيقى وأصوات يوسف وهبي ونجيب الريحاني وأداء أنور وجدي وليلى مراد . في هذا المناخ عبرت موسيقى محمد عبد الوهاب عن رياح الحرية في عناق مع الفن والأمل والتطلع إلى غد مشرق . أما الأن في ظل هذا التراكم من تعاسة الحزن والاحباط واليأس فإن الذي ينتشر هو نوع من ثقافة متخلفة تروج للفن الهابط والذوق الأكثر هبوطاً في قاهرة المعز التي كانت تمتلئ بأصوات أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وألحان محمد عبد الوهاب وتلاميذه من الموجي حتى بليغ حمدي .
لقد انتعشت هذه الملاحظات عند الاستماع للحن بديع بدأ بالعزف على أصابع البيانو في أغنية < أهواك > التي غناها عبد الحليم حافظ للحن لمحمد عبد الوهاب , والذي لا يزال يثير عاطفة الحب والإنفعال مع مشاعر الجمال وبالسمو الإنساني الجميل . وفي هذه المرحلة الراهنة من بؤس وفساد وتلوث يستمع الناس إلى صوت سعد الصغير وأغنية يا حمار . فسبحان مغير أحوال الأمم من < أهواك > إلى هذا الإنحطاط الذي يجد طريقه إلى أذان الناس . لذلك من كان يتغذى بألحان موسيقار الأجيال كانت تصرفاتهم راقية وحضارية وإنسانية , أما جيل أغنية يا حمار فهم يتحرشون بالنساء ويعتدون على الفتيات في شوارع القاهرة العظيمة خلال مناسبة كريمة هي عيد الفطر المبارك . وقل لي ماذا تسمع لأعرف من أنت , وما هو سلوكك والمستوى الاجتماعي والحضاري والبيئة التي تنتمي إليها ؟ ! . ومن أغاني الشعوب يمكن تفسير أوضاعها الأخلاقية والاجتماعية وسلوكيات أهلها . وإذا استمع غريب قادم إلى مصر لأغنية سعد الصغير يا حمار , فماذا سيقول عنا وبأي الأوصاف سيستخدم لوصف مصر في هذا العصر البائس والحزين ؟!