:الموسيقى العربية ما قبل التاريخ
على الرغم من أننا لم نهتدِ إلى الكثير عن حضارة العرب في عصور ما قبل التاريخ، إلا أن القليل الذي وصلنا لا ينكر حضارة العرب وفضلها على الحضارات الأخرى. فبالعودة إلى الألف الأول قبل الميلاد، نجد أن العرب كانوا في ذلك الزمن يعيشون حياة مزدهرة، طبقاً لما وجد من آثار لمدن عربية جنوب شبه الجزيرة العربية، وكذلك حسبما وجد من نقوش بابلية وآشورية. وعلى الرغم من وجود معلومات عن الحضارة العربية القديمة، فقد ظل موضوع الموسيقى مبهما عن ذلك العصر، إلى أن وجد أول أثر للموسيقى العربية يعود للقرن السابع عشر قبل الميلاد، على أحد نقوش بانيبال، حيث يُظهر هذا النقش أن الأسرى العرب لدى الآشوريين كانوا ينشدون إنشاداً جميلاً أثناء أداء أشغالهم، وأن سادتهم كانوا يستزيدون منهم. ليس هذا فحسب، بل واتضدح أن الموسيقى لدى العرب القدماء كانت ترتبط بالطقوس الدينية والشعر والاشتغال بالسحر، وكانت تؤدى بآلات موسيقية عربية الأصل وصل أثرها إلى الحضارات المجاورة، وأهمها سكان بلاد الرافدين والإغريق والعبرانيين، ونجد كذلك أن أسماء بعض الآلات لدى هذه الشعوب مشتق من أسماء عربية، ومثال على ذلك كلمة (الطبلة)، التي دخلت على العبرية (تيبيلا) ولغة أهل بابل وآشور (تابولا).
الموسيقى العربية في العصر الجاهلي (من القرن الأول حتى القرن السادس الميلادي):
لم يكن العصر الجاهلي تام الجهل، بل كان عصراً ذا دور مهم في الحفاظ على التراث العربي القديم، وما سمي "جاهليا" إلا لجهل العرب بتعاليم الإسلام. وفي حوالي القرن الثاني الميلادي كان لا يزال شمال شبه الجزيرة العربية - وبالأخص سوريا والعراق- غارقاً في بحور الثقافة السامية، حتى بدأ العرب الجاهليون يهاجرون من الجنوب إلى الشمال حاملين معهم ما كان لينمي الموسيقى في سوريا والعراق وغرب الجزيرة العربية، حيث برز النشاط الموسيقي في الحجاز ومكة، وكلنا سمعنا عن محافل سوق عكاظ حيث كان الموسيقيون والشعراء يتبارزون، إضافة إلى ما كان يقام من طقوس دينية مصحوبة بالتهليل والغناء من قبل الحجيج في مكة. إلا أن الموسيقى الدينية لم تكن ذات أهمية لدى العرب كما كانت في الغرب، لأن العرب لم يكونوا جميعاً على دين واحد، ولذلك كانت للموسيقى الدنيوية الأهمية الكبرى.
لم يُعرف التلحين عند العرب قبل الإسلام، إذ كانت الموسيقى مجرد ترنيم يؤديه كل مغنٍ حسب ما يملي عليه ذوقه وانفعالاته. أما بالنسبة للآلات الموسيقية التي كانت متواجدة في العصر الجاهلي، فهي تتوزع ما بين الآلات الإيقاعية (الطبل والدف والصنوج والجلاجل) وآلات النفخ (المزمار بأنواعه). كذلك أخبرنا الفارابي عن وجود آلات وترية في العصر الجاهلي، ويتمثل ذلك في الطنبور والعود والمزهر (عود ذو وجه من الجلد) والموتر والبربط (العود الفارسي).
وكانت المزايا التي على المغني أن يمتاز بها، جمال الصوت وذبذبته والشعور الذي يجعل الصوت مستمراً ومتموجاً. ومن أعلام الموسيقى الجاهليين نذكر عدي بن ربيعة الملقب بالمهلهل، والأعشى الملقب بصناجة العرب لطوفانه في أرجاء الجزيرة العربية مغنياً الأشعار ناقراً بالصنج. كما وكان للمرأة العربية دورٌ في الموسيقى قبل الإسلام، حيث كانت نساء القبائل يغنين ويرقصن ويعزفن على آلاتهن، وكان هناك ما يعرف بطبقة (القيان) اللاتي عشن في بيوت الأثرياء وزعماء القبائل وغنين في الحانات، وكان اقتناء القيان مفخرة عند العرب. ونذكر ممن اشتهر من المغنيات في العصر الجاهلي تعاد وتماد من قينات بني عاد، والخنساء، وأم حاتم الطائي هند بنت عتبة التي كانت تخفف متاعب السفر عن محاربي قبيلتها قريش بغنائها الأغاني الحربية ورثاء القتلى.
الإسلام و الموسيقى:
إنه لمن الجلي أن الدين الجديد أتى على تحولات في حياة العرب في الجزيرة العربية، بدءً من الحجاز مهد الحضارة الإسلامية، ولا سيما التحولات التي طرأت على الموسيقى. وظل الاجتهاد يحرم الموسيقى تارة ويحللها تارة أخرى، على الرغم من عدم وجود أي برهان في القرآن الكريم على تحريم الموسيقى. وعلى ما يبدو فإن تحريم الموسيقى والغناء ارتبط بتحريم مجالس الشرب واللهو التي كانت تؤدى فيها الموسيقى، ولكن من جهة أخرى، ومما جاء في السيرة النبوية أن النبي محمد (ص) كان يستمع للجواري اللائي كن يأتين عند عائشة.
تبقى الآراء متباينة في هذا الموضوع، وهي ليست موضع بحث في هذا التقرير. ولكن يكفي أن نذكر أن الإسلام بتعاليمه الجديدة انتقل بالموسيقى إلى مراحل جديدة، ولعل الدعوة إلى الصلاة كان واحداً من هذه التحولات، حيث كان الآذان أقرب إلى الغناء. وفي المدينة المنورة اختلط العرب بالأسرى الفرس، فبدأ تأثر الموسيقى العربية بالموسيقى الفارسية منذ هذه المرحلة، وانتقلت صناعة الغناء إلى ذكور العرب، ومن أولهم و أشهرهم المغني طويس. أما بالنسبة للآلات الموسيقية التي استخدمت في عصر صدر الإسلام، فهي ذاتها تلك الآلات التي كانت مستخدمة في العصر الجاهلي.
الموسيقى في العصر الأموي (661-750):
شهدت الموسيقى في بداية عهد الخلفاء الراشدين (632-661م) هجوماً كبيراً وتحريماً من قبل المتشددين، وبالذات الخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إلى أن عادت تبصر بصيصاً من النور في عهد علي وعثمان اللذين تغيرت في عهدهما مظاهر الحياة الاجتماعية عند العرب والمسلمين، وبذلك شجعوا الموسيقى على أنها جزء من حياة الرفاهية.
عندما انتقلت الخلافة إلى الأمويين، شيد الأمويون أجمل القصور في عاصمة الخلافة دمشق، وانتقل الغناء من مجرد عمل للرقيق إلى عمل للموالي ذوي المراكز الاجتماعية العالية، الذين دخلوا قصور الخلفاء من أبوابها الواسعة وأجزلت لهم العطايا والمكافآت. كما كان لامتداد الإمبراطورية العربية حتى جبال الهندوس شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً أثرٌ في الموسيقى العربية، حيث تأثرت بالنظريات الموسيقية اليونانية وسمات الموسيقى الفارسية، وبقيت هذه الآثار ظاهرة على ألحان الموسيقى العربية إلى يومنا هذا. ونذكر من الإيقاعات الكثيرة التداول في العصر الأموي إيقاع خفيف الرمل (8/10)، وخفيف الثقيل (8/6). ومن أبرز المغنين العرب في العصر الأموي سائب خائر، ومن النساء عزة الميلاء وجميلة، ولا ننسى فضل ابن مسجع الملقب بأبي الموسيقى العربية القديمة، الذي أدخل تجديدات لحنية ووضع أسساً ونظريات في العزف والغناء والتلحين، حيث سار على نهجه المغنون والموسيقيون من بعده أمثال ابن سريج وابن محرز. ومن الجدير بالذكر أنه وضع في العصر الأموي كتابي "النغم" و "القيان" اللذان مهد بهما واضعهما يونس لانطلاق حركة فكرية موسيقية فيما بعد.