[size=7]أن تضيق الملامح الفنية او ان تنحسر او تتماهى او تندمج, كما نشهد اليوم, فلا ريب انه تخبط آخر في الهوية لا يقل شأنا عن المخاطر التي تحيق بالمنطقة, وليس سواها العربية طبعا, ولابد من التنبه لعواقب التغاضي المستقبلية, والانعكاسات السلبية التي تنجم عن ضياع السمات الفنية الصانعة للحضارة والمؤسسة لتاريخ أمة نظير سواها. أهمها خواء المخزون الحضاري الذي هو في حقيقة الأمر, واحد من الواجبات الثقافية التي تتطل ب المتابعة والتدقيق بجهد وأمانة واخلاص والتفاني لتظهير وتصدير أصدق الحالات, وذلك لخلق موروث حقيقي للجيل بل للأجيال القادمة.فالفن هوي ة, والهوية لا تقر إلا بالتراكم الانتاجي والزمني, المستمد والمرتكز على المبادئ والقيم, كعمل خلاق وأخلاقي في آن.ولاشك ان الموسيقى هي الوجه الآخر للحضارة أيا كانت كينونتها الابداعية عربية أم غربية فالموسيقى الغربية الكلاسيكية التي مرت بعدة عصور كان أهمها عصر (الغريكولاتين) ثم عصر الـ(الرومانتيك) ثم عصر (البيانو), ثم عصر الـ(الجاز),بعده عصر الـ(البلوز والروك والبوب... الخ). تعتمد في انشاءاتها اللحنية على (الميجور والمينور) لرسم احداثياتها الموسيقية, بامكانية لحنية أحادية تسمى النزعة الـ(توناليس) أو الطونالية والطنينية.. في حين نجد أن الموسيقى العربية (الكلاسيكية الفصحى) تمتاز عن هذين الحقلين الغربيين بـ(النصف صوت وثلاثة ارباع الصوت وخمسة أرباع الصوت) وربما حتى اللانهائية الرقمية في التصنيف الجزيئي, مما أفسح المجال واسعا للخلق والابداع وحرية الخيار المقامي, وتعدد النغمات وتنوعها التي تتماشى والحالة الابداعية عاطفية كانت أم عقلانية أم روحانية أم وجودية أم وجدانية أم وجدية التي تبلغ حد التجلي الصوفي في بعض الابداعيات اللحنية, وهكذا تمكنت فعلا من ايجاد هوية موسيقية خاصة سميت بعدة نعوت وصفات وأسماء وألقاب ومصطلحات أقر ببعضها ولا يزال البعض الآخر منها قيد الجدل والمقاربة والسجال المفتوح بين الباحثين والمؤرخين والمشتغلين جديا بهذا الغمار يؤكد أهمية - الموسيقى العربية- التي شغلت الباحثين والدارسين الذين اشتقوا لها تسميات عدة منها (الموسيقى العربية الكلاسيكية- الموسيقى العربية الفصحى- الموسيقى العربية المقامية- الموسيقى العربية الشرقية- الموسيقى النغمية الشرقية- الموسيقى العربية الأصلية- الموسيقى العربية الطربية- الموسيقى العربية الايقاعية, ... الخ).ويبدو أن هذه التسميات وسواها قد ساهمت الى حد بعيد في تكريس الجملة الموسيقية الشرقية العربية- المتقنة- جملة فنية لها مصداقيتها ومدارسها وتقاليدها ومواقعها وأهدافها ومبدعوها.وتعتبر الموسيقى لغة حية وعلما قائما بحد ذاته له قواعده وأسسه وأصوله ومناهجه ومدارسه منها (الكلاسيكية- التراثية الشعبية/ الفلكلور أيضا (الرائجة وهي تنحسر في مجالين هما (الرصين والخفيف) و(الكلاسيكية حسب ترجمتها عن القاموس الفرنسي La rosse تعني : <<الفني الجيد الذي مضى عليه زمن واستطاع ان يصمد مع مرور الزمن وقد تحول الى مدرسة يحتذي بها الآخرون وهي مأخوذة من كلمة (classe) أي الصف, وهكذا اتسع الصف واصبح مدرسة لم تعد الكلاسيكية منهاجها الأوحد بل صارت (التقليدية) سمتها الاشتقاقية التي حافظت على أصالتها وعراقتها مع بعض الاجتهادات الذاتية التي تتجلى في (التفريد والارتجال). ويجمع حملة لواء الموسيقى العربية الأصيلة على انها تتصل بقطبين حيويين جدا يوفران الشحنة الابداعية فيها, الأول:اللغة العربية :التي تحمل في كل حرف من حروفها الابجدية الثمانية والعشرين, الدلالة والوزن والايقاع والحالة التي تسمح بالتقطيعات - العروضية- حيث تتشكل التفعيلة الوزنية والتي تقترن اقترانا وثيقا بالصبغة اللحنية ك-(الفرح, والحزن, والاقدام, والتقهقهر, والحث, والتروي, والتصعيد, والتأمل)... الخ.الثاني: أحكام التجويد وأصول الترتيل القرآني, والتواشيح الدينية, كل ذلك كان أساسا لتهذيب الحاسة السمعية, وصقلها كمطلب ضروري لتغذية النفس وارضاء الروح, وإن أول آلة موسيقى عرفت كل مزايا الموسيقى وخصائصها هي الحنجرة البشرية التي تجيد تجسيد المقام النغمي, كموسيقى لحنية وأداء مموسق دون الاتكال على أي آلة لحنية غير الحنجرة, وخير مثال على ذلك المقرئ الشيخ (عبدالباسط عبدالصمد) الذي يؤدي التجويد القرآني بإطراب بالغ, وتفريد لا يضاهى إذ يبلغ وقعا في الذائقة والنفس والروح أبعادا يصعب على الكثيرين بلوغها بذات العمق والدلالة والتجلي . أيضا نلحظ الموسيقى اللحنية المقامية في (الأذان) الذي يرفع في المساجد لتحديد أوقات الصلاة والذي يعتمد مقام الحجاز ويتيح امكانية عرض الع رب الصوتية ومهارة التجوال بين (الجواب والقرار) بشكل صريح وواضح.ومن هنا نلحظ أن الأذن العربية التي أجادت الفصاحة اللغوية اللفظية, امتازت أيضا بالبلاغة الموسيقية من خلال مرونة الاوتار الصوتية والتي جاءت الآلات الوترية على شاكلتها متنوعة ومطواعة, خلاف الآلات الموسيقية الغربية التي تعتمد النفخ والأصابع بحركات محدودة, لا تفسح للمؤدي خارج نطاق الملحن أن يتفرد أو أن يرتجل نهائيا.لهذا نجد أن الرعيل الاول للموسيقى العربية الذي عرف (فصاحة اللغة وبلاغة الموسيقى واصول التجويد وقواعد الانشاد) قد صمد حتى يومنا هذا وقد رسخ بصمته كالوشم على جدران الذاكرة كـ(صالح عبدالحي وعبده الحامولي وزكريا احمد والقصبجي وغيرهم...) وقد ساهم أيضا تنوع البيئة العربية وتعدد لهجاتها, باغناء الألوان الفنية وتنوع قوالبها الموسيقية التي عرفت حسب المناطق وطبيعتها, ففي بلاد الشام اشتهرت (الميجانا والدلعونا والمعنى والعتابا والموّال... الخ) كما انفردت حلب بما يسمى (القدود) لوفرة الخامات والاصوات الجيدة مثل (محمد خيري وصباح فخري وصبري المدلل وأديب الدايخ وآخرين..) , كما ازدهرت في العراق (المقامات العراقية والمقامات البغدادية) وعرف هذا اللون الغنائي رواجا لافتا حتى يومنا هذا وخاصة ان من يؤدي هذا اللون الغنائي يتوجب عليه اتقان الأداء وتمتين الخبرة اضافة للصوت الجيد أصلا وقد برع في هذا المجال كل من (محمد القبانجي وناظم الغزالي وانعام محمد علي وغيرهم) وأيضا ثمة في مصر حركة فنية ساهمت في اغناء رصيد الفن العربي عموما والفن الموسيقي خصوصا وقد عنيت بما عرف بالأدوار والموشحات الكلاسيكية والتقليدية ومن رواد هذه المدارس (الشيخ سلامة حجازي وماري جبران وصالح عبدالحي ومنيرة المهدية وألمظ وغيرهم) وفي الستينيات والسبعينيات دخلت التقليدية الكلاسيكية المرحلة التجديدية مع (محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وأسمهان وسعاد محمد وليلى مراد وفايزة احمد ومحرم فؤاد وكارم محمود وآخرين...).غير أن الموسيقى العربية لم تسجل حضورا منفردا بمعنى أنها ارتبطت ارتباطا وثيقا بالكلمة, فكل جملة موسيقية لحنية تعتبر قالبا موظفا توظيفا طرديا مع الجملة الكلامية (الشعرية) فصيحة كانت أم محكية, لهذا كانت الأغنية مثار الجدل والبحث في كل عقد من الزمن, او حقبة من الحقب.. فأم كلثوم مثلا تعتبر صورة لحقبتين فنيتين, الحقبة الأولى أم كلثوم والقصبجي والسنباطي, تختلف تماما عن أم كلثوم محمد عبدالوهاب وبليغ حمدي وسيد مكاوي وغيرهم.وهكذا نجد أن الجرأة المبكرة في المزج اللحني المقامي لصنع الموسيقى التقليدية آنذاك قد سهل انزلاق البنية اللحنية عن السلم الموسيقي العربي, كما قلّص المسافات المتنوعة واختزل التدرجات المقامية التي كانت فيما مضى هاجس الملحن لصنع اللحن وخاصة ان الدراية والموهبة والمهارة والدربة كانت الدافع الأساس للتعامل مع المقامات الموسيقية العربية بشكل عشقي أولا وأخيرا, والتي يجهلها اليوم أكثر من 90% من المقبلين بشغف على عالم الغناء والذي يروج لهم السماسرة والتجار بشكل مريع على حساب الفن والذائقة والهوية, إذ يخفق هؤلاء بمعرفة الحد الأدنى من المقامات الموسيقية المتداولة في التأليف اللحني أهمها (مقام الصبا ومقام الرست ومقام الحجاز والبيات والهوازن والعراق والعشاق... الخ). لنجد أن التأليف الموسيقي الغنائي اليوم يقوم على الخلط الايقاعي, والاستيراد العشوائي للقوالب اللحنية الغربية, والاستعراض المجاني للتقنيات الالكترونية وهلم جرا.على مطربي (الطفرة) وإنما تعدت لنجوم الطرب في العالم العربي مثل (وردة الجزائرية وميادة الحناوي وعلي الحجار وآخرين).وخاصة بعد شيوع الظاهرة (الشرنوبية)