تعرف الموسيقى على العموم على أنها فنون العزف على آلات الطرب، وعلمها هو«معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها إلى بعض وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء»(1)، وهو من أقدم العلوم ويندرج حسب التصنيف التقليدي تحت علم التعاليم الذي ينظر في المقادير على العموم إلى جانب الهندسة وعلم الهيئة...، وهو من العلوم القديمة التي اشتهرت بها الحضارتين اليونانية والفارسية وانتقل أثرها إلى الحضارة الإسلامية من بعدهما. ومن الملاحظات الطريفة والدالة من الناحية التاريخية أن تطور علم الموسيقى ساهمت فيه طائفة معتبرة من الفلاسفة، سواء في الحضارتين الفارسية واليونانية أو في الحضارة الإسلامية ومن أبرز هؤلاء أرسطو والكندي وغيرهما. ومما يحكى عن الكندي في هذا الباب -وكان حاذقا في الموسيقى- أنه «إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم»(2) في إشارة إلى الأثر الروحي والنفسي القوي الذي كان يحدثه نقره. ولم يتخلف المسلمون عن غيرهم في التأليف والإبداع العلمي في مجال الموسيقى بل أثروا الحضارة الإنسانية بنصوص وأعمال لا زالت شاهدة على تقدمهم في هذا الميدان، فلا تخلو كشافات المخطوطات وفهارسها في مختلف البلاد العربية والإسلامية من عناوين مصنفات الموسيقى والعلوم المرتبطة بها، وقد ساهم في هذا التدوين الفلاسفة والفقهاء والساسة...، الشيء الذي يدل على رقي الحضارة الإسلامية وكمالها الإنساني، فلم تهمل ناحية من الطبيعة الإنسانية كما يحاول أن يصورها البعض.
وعن علاقة الموسيقى بالدين تذكر بعض أخبار الأوائل التي أوردها صاحب "كشف الظنون"، أن علم الموسيقى وضعه أحد تلامذة سيدنا سليمان عليه السلام الذي صنع آلة موسيقية وبدأ يرغب من خلال العزف عليها في أمور الآخرة وهو ينشد شعرا في التوحيد(3). فالموسيقى بحسب سياق هذا الخبر لم تنشأ على خصام مع الدين وأغراضه، بل على العكس كانت وظيفتها تهيئ النفوس والأرواح لاستقبال المعاني والقيم الدينية، وبالتالي هي من "علوم الآلة" التي يتوسل بها الدين لتحقيق أغراضه، شأنها في ذلك شأن بعض العلوم والفنون التي تخدم الرسالة الدينية وتيسر نفوذها. والحضارة الإسلامية منظورا إليها من هذه الزاوية تمدنا بأمثلة بارزة وقوية عن الوظيفة الدينية للموسيقى. ففي المغرب –مثلا- ألف الفقيه أبو الربيع سليمان الحوات (ت. 1816م) كتابا في الموسيقى الأندلسية يعرب فيه عن هذه الوظيفة سماه "كشف القناع عن وجه تأثير الطبوع في الطباع"(4).
الإنشاد الديني والصوفي الذي ازدهر في بعض مراحل الحضارة الإسلامية كانت وظيفته تهذيبية وأخلاقية وتطهيرية ودعوية، قبل أن تشوبه الانحرافات العقدية، وطقوس البدعة. وشيء من هذا لا زال حاضرا في حياتنا المعاصرة، مشخصا في النشيد الإسلامي الذي هو تعبير موسيقي يحضِر الذات لاستقبال المعاني والقيم الدينية أو يكرسها. ولسنا بحاجة لهذا الأثر من كلام الأوائل حتى نعترف للموسيقى بدورها الديني؛ ففي المقدمة التي مهدنا بها لهذا المقال قررنا أن الموسيقى هي إحدى "لغات الروح"، وبالتالي إتقان هذه اللغة والتوسل بها لمخاطبة الروح وإصلاحها، مفتاح ضروري.
أما الخصومة بين الدين والموسيقى التي نراها اليوم، ونلمس أثرها وعلى أكثر من صعيد فمردها إلى مناقضة مرفقات الموسيقى وبعض فروعها أو علومها (الرقص) وشعرها... لمقاصد الدين وقيمه وأغراضه في إصلاح النفس والروح البشرية. فالدين من حيث هو عقيدة، هو «نظام أو مجموعة من الحقائق العامة لها تأثير في تكييف الخلق، إذا صدق الاعتقاد بها، وفهمت فهما واضحا قويا»(5)، أي أن غاية الدين وهدفه الأسمى تكيف الإنسان وهدايته في تدبيره لنفسه، ففي الوقت الذي تتحول الموسيقى إلى سبيل للغواية والتغرير بالنفس، وجرها نحو التناقض مع هذه الغاية، ومن ثم تزيين الفساد لها، وإغراقها في الانحلال يتغير حكمها في الدين ويناصبها العداء، أما في حالة ما إذا سلمت من هذا كله، وعملت في الاتجاه المخالف أي إصلاح النفس وعلاجها من أمراضها فلا مجال للإيقاع بينهما.