رابعاً : المرحلة الرابعة (ما بعد 1994- قيام السلطة الوطنية الفلسطينية):
في عام (1993م) تم توقيع وثيقة إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية في البيت الأبيض، وعلى ضوئها قامت السلطة الوطنية الفلسطينية عام (1994م) في قطاع غزة وبعض أجزاء من الضفة الغربية برئاسة ياسر عرفات. وكنتيجة حتمية لهدوء الانتفاضة والاضطرابات والأحداث العنيفة، وبداية استقرار الأوضاع، أصبح المناخ العام مهيئاً لعودة الحياة الثقافية والفنية والموسيقية لممارسة نشاطاتها بشكل أكثر استقراراً. هذه الظروف الجديدة كان لها الأثر الكبير على النشاطات الموسيقية سلباً وإيجاباً، فبعض الموسيقيين والمغنيين تضائل عملهم، والبعض الآخر استمر وتطور في العمل والإنتاج الفني كفرقة صابرين والفنان مصطفى الكرد، فهم ما زالوا يؤلفون الأغاني ويغنونها.
تميزت هذه المرحلة بظهور الكثير من الموسيقيين الأكاديميين المتخصصين سواءً على مستوى التلحين أو الغناء أو العزف أو البحث العلمي في مختلف مجالات العلوم الموسيقية. ولقد كان لهذه المجموعة من الموسيقيين الأثر الكبير في إيجاد حالة موسيقية وغنائية جديدة في فلسطين، ومنهم ريم البنا وهي مغنية وكاتبة أغنية درست الموسيقى في روسيا وركزت في أغنياتها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن أغانيها بعيدة من حيث الطابع اللحني عن الأغنية الفلسطينية، فهي ذات طابع لحني غربي. والمغنية تانيا ناصر التي عادت من الأردن إلى فلسطين عام (1993م) فقد عبرت من خلال أغانيها عن القضية الفلسطينية، إلا أن ألحانها أيضاً كانت غربية بعيدة عن الطابع الفلسطيني. كما ظهر عازفون مميزون أمثال سمير جبران وهو عازف عود درس في مصر، وعادل سلامة وهو عازف عود أيضاً درس في العراق.
ومن خلال الدراسة الميدانية التي أجراها الباحث على المؤسسات والمراكز الثقافية الفلسطينية التي نشأت في هذه المرحلة يتضح أن ما ميز هذه الفترة هو ظهور الكثير من المؤسسات والمراكز الثقافية التي ساعدت بشكل أو بأخر على تطوير الأغنية الفلسطينية والحفاظ على ملامحها التراثية الشعبية، ومن أهم هذه المؤسسات:
وزارة الثقافة الفلسطينية، والمحطات الإذاعية والتلفزيونية الحكومية والخاصة، والمعاهد الموسيقية المتخصصة، والمهرجانات الفنية المختلفة.
إن الازدهار الموسيقى الذي شهدته مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية والذي تجسد أيضاً بإنشاء الصالات والمسارح الموسيقية، وكذلك إقامة المهرجانات المحلية والعربية والدولية مثل: مهرجان فلسطين الدولي ومهرجان بيرزيت ومهرجان أريحا ومهرجان رام الله واستقطاب كبار المطربين والموسيقيين من الوطن العربي والعالم، يذكر بالوضع الموسيقي في مرحلة الثلاثينات والأربعينات مع اختلاف في الشكل لا في المضمون أوجبته تطورات العصر. إلا أن هذه الفترة لم تدم طويلا، ففي (28 سبتمبر عام 2000م) اندلعت الانتفاضة الثانية حيث أفاق الشعب الفلسطيني من حلم الاستقلال والسلام الذي عاشه منذ قدوم السلطة الفلسطينية عام (1994م) علـى واقع مر وأليم يؤكد حقد الاحتلال الإسرائيلي وجبروتـه وتعنته أمام كافة مبادرات السلام الدولية. وبعد ذلك وفي بدايات عام (2001م) قام الاحتلال الإسرائيلي باجتياح كامل لكافة مناطق السلطة الفلسطينية.
وقد انتهزت إسرائيل الصمت الدولي تجاه ممارساتها التعسفية فعاثت في فلسطين فساداً، حيث دمرت معظم البنية التحتية للمدن والقرى الفلسطينية، حتى المراكز والمؤسسات الثقافية لم تسلم من التدمير والخراب بما في ذلك وزارة الثقافة الفلسطينية، ومحطات الإذاعة والتلفزيون إضافة على صالات العرض. كل ذلك أنعكس على الحياة الثقافية الموسيقية في فلسطين فجمدها وأوقف تطورها. وعادت أغنيات المقاومة تطفو على السطح كسابق عهدها، وعاد الموسيقي الفلسطيني يعبر عن معاناته اليومية وعن المجازر الصهيونية المجرمة بأغنيات ظهر فيها الطابع الفلسطيني الذي عهدوه منذ النكبة عام (1948م) كما في الأغنية التالية :
لبّوا لبّوا الصّــــــــــــوت والأقْصى كَبّـــــرْ
يا عَربي طابِ المــــــوتْ كَبّر عَالعِدا كبّـــــر
****
لعيوَنكْ يا شَعبي الصّامـدْ يا شَعبي الصّامــــــــــــــدْ
مَع بَعض انكافِحْ وانْجاهِدْ انكافِــــــــــحْ وانْجاهِـــــدْ
خَلّي صــــــوتَكْ عَالِــــي يا أقْصَــــــــــانا الغّالـــــي
خَـــــــلّي صوتَكْ عَالِــــي وْقـــــــــول الله الله الله الله
الله أكْبَرْ الله أكْبَرْ
الخلاصة :
لقد استطاعت الأغنية الفلسطينية عبر مراحل تطورها المختلفـة - منذ أوائل القرن العشرين وحتى بداية القرن الحادي والعشرين- أن تجسد فلسفة المراحل النضالية التي عاشها الشعب الفلسطيني، كما عكست طرق تفكيره ورؤيته للحياة.
وقد استوحت الأغنية الفلسطينية سماتها وشخصيتها من الظروف الحياتية التي عاشها الشعب الفلسطيني، واستطاعت هذه الظروف أن تُحدد لها منهجاً وخطاً لحنياً نابعاً من عمق التراث الشعبي الموسيقي في فلسطين، وبذلك أصبحت الأغنية الفلسطينية في مراحلها المختلفة أشبه بمعالجة لمادة موسيقية شعبية متأثرة بروح التراث وخاصة في مجالات المدى الصوتي، والإيقاعات، والمقامات الموسيقية، والجمل اللحنية.
أن الأغنية الفلسطينية ما زالت أغنية المقاومة التي تصب في خدمة القضية الفلسطينية، فهي نتاج لتراكمات من الظروف الاجتماعية والسياسية، إلا أن متغيرات العصر فرضت عليها تحديث بعض جوانبها دون المساس بخصوصيتها الفلسطينية وأصالتها، كظهور تحديث في توزيع الألحان الغنائية(هارمونياً )، وظهور طرق أداء جديدة تتلاءم وروح العصر، وتنوع الحركة اللحنية والمسافات الموسيقية، واستخدام تعدد الأوزان الإيقاعية، كذلك تنوع النصوص الغنائية وأوزانها الشعرية، وظهور مفردات لغوية جديدة تتلاءم وطبيعة المرحلة.
لكن ومع كل هذا التحديث والتطور الذي أصاب الأغنية الفلسطينية إلا أنها بقيت محافظة على أصالتها، فهي ما زالت مستقاة من روح الشعب ووجدانه.
المراجع :
1. أحمد بيومي، القاموس الموسيقي.
2. رياض البندك، مذكرات رياض البنط.
3. عبد اللطيف البرغوثي، ديوان الدلعونا الفلسطيني.
4. معتصم عديلة : مدخل إلى التربية الموسيقية من خلال الفولكلور الفلسطيني.
5. الموسوعة الفلسطينية: "الموسيقى والغناء في فلسطين".
6. نمر سرحان، موسوعة الفولكلور الفلسطيني.
7. يسرى عرنيطة، الفنون الشعبية الفلسطينية.
http://www.arabmusicacademy.org/inp/view_printer.asp?ID=27&AUTHOR=%D8%AF.%20%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B5%D9%85%20%D8%AE%D8%B6%D8%B1%20%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D9%84%D8%A9