الخارجي المؤثر كاللحن واللوحة .
رامياً من ورائها إلى ذلك المعنى التجريدي . يعني الوفاء.
إني أنساها، ولا أحفل بغزارتها المتوثبة كالزبد، ولا بعَرفها- بفتح العين- المستوفز . إنني لم أُعرفها انتباهاً .
ومعنى هذا أني لم أسلك حيالها مسلك فنان . ذلك أن الفنان يعد اللون وطاقة الزهر ورنين المعلقة في الصحون أشياء في ذاتها وفي أعلى درجات وجودها، ويتأمل في صفات اللون أو الشكل، ويطيل فيها التأمل مبهوراً بجمالها، وينقل على لوحته ذلك اللون الموضوعي نفسه . وكل ما يعتريه من تغير هو أنه جعل منه موضوعاً خيالياً.
فالفنان إذن أبعد ما يكون عن عد الألوان والأصوات لغة من اللغات".
قال أبو عبدالرحمن : شرح سارتر الكيفية التي لها أصبح الورد الأبيض ذا مدلول عرفي . وليس هذا محل خلاف. إنما محل النزاع ما ادهاه من أن الفن لا مدلول له غير المتعة الجمالية، ولهذا أصبح غير قابل للالتزام .
فتفسير سارتر لكيفية الدلالة لا يعني البرهنة على انتقاء الدلالة .
واللون مادة الفنان التشكيلي، وكل لون له إيحاء موضوعي يرمز به الفنان شاعراً أو ناثراً ورساماً، فيصبح هذا الرمز مدلولاً عرفياً، وهذه الدلالة زائدة على المعنى الجمالي الخالص، وبهذا أصبح الفن بريئاً من دعوى الخلص المطلق، وأصبح ذا دلالة .
والدلالة الأدبية والفنية أثرى وأمتع من الدلالة القاموسية، فعلى سبيل المثال رواية بلزاك عنوانها زنبقة الوادي، وهو مدلول فني رمزي موفق لا يليق به أي دلالة قاموسية كالعفيفة، أو الشريفة، أو الطاهرة، أو النقية .
والدلالة الفنية والأدبية الرمزية العرفية الزائدة على معنى الجمال ليست تجريداً لأعمى كما سيدل عليه سياق سارتر ، وكما سيدل عليه زعمه بأنه الرامز بالوردة لم يسلك معها مسلك فنان، لأن الرامز بالوردة دلف إليها بإغراء جمالي لجمال شكلها ولونها وعبيرها، وخبرها خبرة جمالية، فرأى صدق معانيها الجمالية لأنه لا يقبح شكلها ولونها مطلقاً، ولأنها بالعبير دائماً، ولأنها تمتع بذاكرها في المغيب كما هو محضرها في المشاهدة .
فهذه خبرة فنان بلا ريب، فأخذ من صدقها الجمالي رمزاً عرفياً كالوفاء والطهر لأن الوفاء صدق مستديم فناسبه الصدق الجمالي المستديم للوردة .
فالرسام وذو التعبير الفني لم يورد لفظه أو لونه استعارة لجمال الوردة في ملء الفراغ حتى يكون جمالياً خالصاً، وإنما اشتق منه مدلولاً عرفياً يرشحه للالتزام، وهذا معنى أن الفن معرفة .
ومن قول سارتر :"للون مدلول لغوي قاموسي ككلمة أحمر فهي لفظة دالة على اللون المحسوس الذي سمي أحمر .
وكلمة غاق كلمة قاموسية تدل على صوت الغراب .
كما أن كلاً من اللون والصوت يكون مدلولاً فنياً رمزياً كدلالة غاق على الخراب، ودلالة الأحمر على الإرهاب.
ولا فرق بين الشاعر والناثر، فقد يوظفان اللغة القاموسية للتعبير المباشر عن مرادهما .
وقد يوظفان الرمز والمجاز الفنيين للتعبير الموحي بمرادهما .
إذن الالتزام سلباً وإيجاباً في حرية الشاعر والناثر ، وليس هو إيجاباً حتمية في لغة الناثر فقط بحيث يكون سلباً حتمية في لغة الشاعر .
ومن يدعي قبول الفن للالتزام لا يدعي أن دلالته الزائدة على المعنى الجمالي دلالة قاموسية مباشرة، وإنما ينكر ما ادعاه سارتر من خلو الفن من أي مدلول يرشحه للالتزام غير مجرد المعنى الجمالي .. وقبول الفن فرع كونه معرفة.
ويرى سارتر أن الرسام في مزجه بين الألوان لا يقصد إلى وضع علامات على لوحته، ولا يدل مجموع الألوان على معنى محدد.. واستثنى معنى خفياً كتفضيل الرسام للون الأصفر على البنفسجي، لأنه قد يدل على ميوله الخفية، ولكنه لا يعبر عن غضبه أو ضيق صدره أو عن سروره كما تعبر الكلمات أو ملامح الوجه، لأن مشاعر الفنان تختلط على الأفهام ويغمض معناها حين تصب في قوالب من الأصباغ التي كان لها من قبل ما يشبه المعنى.
قال أبو عبدالرحمن : غبي على سارتر أن اللوحة التي لا تدل على شئ، وليس وراءها إلا المتعة الجمالية فحسب: هي الشكل الأدنى في الفنون التشكيلية .
وهذا يعني أن الدلالة في الفن التشكيلي مطلب فني مجمع عليه من مبدعي الفن وجمهوره.
وغبي على سارتر أن دلالة الرسم الغامضة على ميول الفنان الخفية (كاختياره للون الأصفر) قضية أخرى غير قضية موضوع اللوحة.
ومن باب القياس نحن نفهم معنى إحدى قصائد المتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى إحدى قصائدالمتنبي، وهذا هو دلالة الموضوع، وفي نفس الوقت نستشرف إلى معنى ميوله الخفية على اختيار التعقيد والغموض بدراسة سيكلوجية وتاريخية.
إذن دلالة اللوحة على ميول الرسام الخفية قضية أخرى، ولا تعني خلو اللوحة من الدلالة الموضوعية.
وغبي على سارتر أن اختلاط مشاعر الفنان لا يعني اختلاط مراداته (الدلالة الموضوعية) الناتجة عن اختلاط مشاعره .
وعلى فرض أن اختلاط مشاعره يعني اختلاط مراداته: فهذا بيقين لا يعني انعدام الدلالة، لأن غموض الدلالة لا يعني الخلو منها.
وعلى فرض أن اختلاط مشاعر الفنان يعني اختلاط مراداته، وأن اختلاط المراد يعني الخلو من الدلالة: فهذا لا يعني بيقين أن هذا خكم مطلق في كل لوحة، وإنما يعني ذلك أن بعض اللوحات لم تحقق مدلولاً.
ومن يقول :"أن للفن دلالة" لا يزعم أن كل فن يحمل مدلولاً، بل يزعم أن الفن قابل لدللالة لمن أراد الانعتاق من المحضية الجمالية، ومن ثم فهو قابل للالتزام.
ولهذا ضرب سارتر المثال بلوحة (الجلجلة) وهو الجبل الذي تزعم النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب عليه.
وهي لوحة رسمها الفنان الإيطالي تنتورتو فرسم مِزْقة صفراء في السماء فوق الجبل.
وقد حاول سارتر أن ينفي عن هذه المزقة أي مدلول أراده الرسام، لأنه يشتبك بها علاقات تمنع من معنى محدد.
قال أبو عبدالرحمن : لم أطلع على لوحة (الجلجلة) ولا يحق لي الحكم على غائب، ولكن على فرض خلو لوحة الجلجلة من مدلول فلا ينسحب هذا الحكم على كل لوخة في الوجود.
وإشتباك العلاقات في لوحة الجلجلة لا يعني خلوها من المعنى، وإنما يعني تعدد المعاني المحتملة.
فهل غبى على سارتر أن اللغة القاموسية التي يؤمن بها تكون خفية الدلالة ومحتملتها؟!.
وهل غبى عليه أن الجملة تدل على أكثر من معنى كما تدل اللوحة على أكثر من معنى؟!.
وهل غبي عليه أن بين المعاني المحتملة معنى محدداً هو مراد المتكلم أو الرسام بمرجحات أخرى؟!.
وثمة ملاحظة نفيسة وهي أن غموض المشاعر نفسها يكون مدلولاً، لأن الرسام أراد أن يعبر عن المشاعر الغمضة بمدلولات غائمة.
لقد تجاوز فن الجمال الانطباعات والتذوقات البسيطة والأحكام المرتجلة إلى تقنية علمية حضارية، وأصبح منه تربية تعليمية ودعائية واقعية طوع الفنان الملتزم الموهوب، وبهذا تحول الجمال من إحساس إلى علم.
إن نظرية الالتزام المشلول في مذهب سارتر هي الوجه الكئيب في النظرية الأدبية، وإن النظرية الفنية الأدبية لا تحتمل هذه اليبوسة السارترية.
يقول سارتر: وكذلك دلالة الألحان- إذا جاز لنا أن نسميها دلالة- ليست شيئاً خارجاًَ عن الألحان نفسها!.
فهي في هذا مغايرة للأفكار التي يستطاع الإعراب عنها بطرق كثيرة على سواء.
ثم قال: ولكن لحن الألم هو الألم نفسه، وشيئ آخر غير الألم.
وعرج على الرسام، وقال عن مقارنته بالكاتب: أن يقودك إلى ما يريد، وإذا وصف لك كوخاً فحسب، ولك حرية تأويله بما تشاء .. ولن يكون هذا الكوخ رمزاً للبؤس، لأنه لكي يكون رمزاً يجب أن يكون علامة لها مدلولها في حين هو في الواقع شيئ من الأشياء. وقد قصد أحياناً بعضُ الخيرين من الرسامين إلى إثارة شعورنا فرسموا صفوفاً من العمال يتقاضون أجورهم فوق الثلج، أو أبرزوا الوجوه الهزيلة للمتعطلين، أو صوروا ميادين الحروب .. ولن يتجاوز أحدهم في التأثير ما وصل إليه الفنان جزور في لوحته (الولد المضياع).
قال أبو عبدالرحمن: لم أطلع على لوحة (الولد المضياع) ولكن علمت أنها تعبيرصامت عن حكمة تقرؤها النصارى في كتب العهد الجديد من إنجيل لوقا، وهو أحد الكتب المبدلة المفتراة .. ورد فيه عن فرحة الله بتوبة التائب هذان المثلان :"أي إنسان منكم له مئة خروف أضاع واحداً منها: أن لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده!!.
وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحاً، ويأتي إلى بيته ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم : إن هذا يكون فرح السماء بخاطئ واحد أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة!.
أو أية امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهماً واحداً أن لا توقد سراجاً وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده!.
وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته" (38).
ثم أجمل الحكم في فنون الرسامين بقوله: وبالرغم من هذا ففي كل هذا الإنتاج الفني يمكن فهمه كل الفهم ولابد من كلمات لا حصر لها للدلالة عليه.
وقال: فالمعاني لا ترسم، ولا توضع في ألحان .. فمن ذا الذي يجرؤ - والحالة هذه- أن يطلب من الرسم والموسيقى أن يكونا التزاميين ؟!.
وعلى النقيض من ذلك الكاتب، فعمله إنما هو في الإعراب عن المعاني.
وعلينا أن نسجل هنا تفرقة أخرى هي أن ميدان النعاني إنما هو النثر، فالشعر يعد من باب الرسم والنحت والموسيقى.
قال أبو عبدالرحمن : الفن الموسيقي غير قابل للالتزام عند سارتر، لأن دلالة اللحن هي اللحن نفسه، وهذه دعوى غير متحصلة، لأن منع سارتر للفنون الجميلة من قبولها للالتزام مبني على دعواه بأنها فنون غير تعبيرية.
فكون الفن هو نفس دلالته لا معنى له، بل إذا وجدت الدلالة أصبحت قابلة للالتزام.
ولا يتصور عقلاً ولا واقعاً أن يكون الشيء له دلالة ، ثم تكون الدلالة هي ذات الشيء.. والأريح لسارتر أن يثبت على أحد أمرين:
فإما أن يجزم بأن للحن دلالة، وحيمئذ لا يجد المسوغ الكافي بأن اللحن غير قابل للالتزام.
وكثير من اللحون ذو مدلول، واللحن ليس هو الدلالة (ويريد سارتر بالدلالة المدلول عليه) بل في اللحن صورة المدلول عليه.
والمدلول عليه حقيقة هو إحساس الملحن أو المتلقي.
أما قول سارتر "ولكن لحن الألم هو الألم نفسه": كلام لا ينفعه، لأن هذا لا يعني أن اللحن لا دلالة له، ولا يعني أن اللحن هو نفسه المدلول عليه.. بل يعني هذا أن للحن حقيقة في ذاته، وأن له مدلولاً غيره هو التعبير عن الألم أو استثارته.
أما قوله :"وشيء آخر غير الألم": فيعني به محضية الفن.
وقال سارتر: فهي- أي الألحان- مغايرة للأفكار التي يُستطاع ال'راب عنها بطرق كثيرة على سواء.
قال