الموسيقار محمد القصبجي رائد التجديد في الموسيقى العربية
في ذكرى رحيله في آذار عام 1966 رحل الملحن القدير محمد القصبجي إثر عملية جراحية أدت إلى عجزه ثم وفاته، رحل ولم ترحل أعماله الموسيقية لأنها دخلت التراث العريق من أوسع أبوابه، وأخذت مكانها في القلب والوجدان على مر الزمان.
حياته: ولد محمد القصبجي عام 1892 في عصر سيد درويش وكان أبوه الشيخ علي القصبجي من أعلام الموسيقى العربية الأوائل، وقد غنى له عبده الحامولي والمينلاوي ومحمد عثمان ووضع الكثير من الألحان في مجال الموشح والدور والقصيدة الغنائية.
وفي هذه البيئة نشأ محمد القصبجي فأتقن فن الموسيقى منذ صغره ودرس فن التجويد والمقامات والموشحات مما جعله قادراً على فهم جميع أشكال فنون الموسيقى والغناء العربي ما دامت جذوره ضاربة في عمق التراث، رغم ان والده عارض ان يتعلم ابنه الموسيقى لأنه كان يعتبرها مهنة المتاعب، لكن الشاب تشرب الموسيقى بنوعيها الشرقية والغربية مع رفاقه سامي الشوا ومحمد العقاد وإبراهيم العريان وغيرهم...
ملك العود: يُجمع المختصون ان محمد القصبجي هو سيد آلة العود في القرن العشرين بلا منازع، وقد روى في أحاديث كثيره عن تعلمه العزف على هذه الآلة وقال: لم يكن والدي يعطيني ما يكفي لشراء آلة عود، فلجأت إلى جارنا النجار الذي تبرع لي بقطعة خشبية لها رقبة تشبه رقبة العود، وطلبت منه ان يثبت عليها رزتين حتى أشد عليهما الأوتار، ومن بعيد كنت أراقب والدي وهو يعزف على عوده، وكلما انقطع معه وتر وأتلفه كنت أتلقفه وأشده على قطعتي الخشبية وأبدأ بالعزف، وكان والدي يقفل باب غرفته ويمنعني من استخدام عوده، وبعد وفاته فؤجئت بأن والدي كان يملك أكثر من عشرة أعواد، ولكنه لم يقتنيها حباً بالتحف بل لأنه كان باحثاً في أنغام هذه الآلة السحرية، وقد تعلّم محمد القصبجي العزف حتى غدا ملك العود في عصره بكل جدارة.
أضاف وتراً سادساً: لقد عد النقاد الموسيقار محمد القصبجي المبدع الثالث في العرف والتجديد والتطوير لآلة العود بعد محيي الدين حيدر الذي استخدم لأول مرة أصابع اليد في العزف على العود، وجميل بشير الذي نقل حامل الأوتار من صدر العود إلى نهاية ظهره بعد ان أضاف له الوتر الخامس، أما القصبجي فقد أضاف الوتر السادس المزدوج للحصول على مزيد من النغمات الموسيقية. وإذا أردت ان تسمع القصبجي وبراعته فاصغِ جيداً إلى مقطع من أغنية «يا ظالمني» لأم كلثوم الذي يقول «حكيت لك عن سبب نوحي» فتجد عبقريته في نقرات عوده الخطير التي تعبر عن تقنية عالية ومقدرة وإحساس كبير في العزف الابداعي.
القصبجي وكوكب الشرق: في عام 1926 وقفت أم كلثوم لأول مرة على المسرح، وكان وراءها تخت شرقي مؤلف من كبار العازفين، ومن ابرزهم قائد هذا التخت الملحن محمد القصبجي، الذي وضع لها أول لحن بعد ان خلعت الجبة والقفطان، ولبست الفستان وهي من تأليف أحمد رامي وهي (إن حالي في هواها عجب) ثم غنت له «يا صباح الخير يللي معانا» و«نورك يا ست الكل» «ويللي انحرمت الحنان» ومن أشهر أعماله أغنية «رق الحبيب» الخالدة التي تستحق الدراسة ثم منولوج «إن كنت سامح وانسى الاسية».. وليه يا زمان ، ومنيت شبابي.. وآخر أعماله لأم كلثوم وأعظمها منولوج «أيها الفلك على وشك الرحيل»، وكان مجموع ألحانه لكوكب الشرق سبعين لحناً، أما مجموع ما قدمه بلغ ثلاثمـئة وستين أغنية دون مؤلفاته الموسيقية الخالدة في المكتبة الموسيقية العربية الخالدة.
غزارة انتاجه: وضع الفنان محمد القصبجي مئات الألحان المسرحية والسينمائية في مجال المنولوج والطقطوقة والمسرحية، ومن أشهر أعماله التي سبقته في الشهرة لحن «أنا قلبي دليلي» للمطربة ليلى مراد وأغنيته «يللي تحب الفل» للمطربة نور الهدى، وأغنيته «ليت للبراق عيناً فترى» لأسمهان الذي لحن لها منولوج «يا طيور» الرائع وغنت له المطربة صباح ثلاث أغنيات في فيلمي «أول الشهر»، «وأنا وابن عمي»، وقد تخرج من مدرسة القصبجي جيل كامل من أساتذة الموسيقى العربية أمثال محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وزكريا أحمد، وتولى رعاية الكثير من الأصوات الغنائية أمثال أم كلثوم وليلى مراد وسعاد محمد ونور الهدى وأسمهان وصباح ولورد دكاش وآخرون...
القصبجي رائد التجديد: أتقن محمد القصبجي فن الموسيقى العربية واتخذ علمها من منبعه الأول بعد أن نشأ في بيئة اجتمعت عندها سلالات الفن الأصيل، وقد برع في صياغة قوالب لحنية جديدة، ولا سيما في المنولوج وقد سماه النقاد أبو المنولوج، وهذا فن موسيقي جديد ظهر عام 1915، وقد استطاع القصبجي بعبقريته ان يجعل منه لوناً أصيلاً من ألوان الغناء العربي الأصيل، حيث رسم جمله اللحنية وثبته من خلال صياغته وتجديده الذي يقوم على أساس المقدمة الموسيقية التي تحمل معاني المنولوج كنص ثم تأتي اللوازم الموسيقية المتعددة التي تساعد على السرد والغناء والانتقال بحرية بين مقام وآخر بعيداً عن الدوزنة المكرورة بعد المذهب والتي تقطع عادة بين أغصان الأغنية.
وقد عالج ضروب هذه الصنعة بشفافية ساحرة قلما وجدت عند غيره من الموسيقيين، كما جدد القصبجي في نكهة الغناء العربي متأثراً بالتراث الأوروبي الكلاسيكي فأدخل التعبير في الغناء وطوّر الكثير من اللوازم الموسيقية البديعة.
رحيله: فقدت الموسيقى العربية برحيل القصبجي أحد أهم عمالقها بعد ان ترك موسيقاه تعبق بالنغم الأصيل، وقال في رحيله المطرب محمد فوزي: إن لحن «أنا قلبي دليلي» دليل على عبقرية القصبجي، وقال الموسيقار توفيق الباشا من يسمع أغنية يا طيور لأسمهان يستطيع ان يعرف ان القصبجي هو أستاذ النغم بكل تعقيداته.