مع بداية القرن العشرين ظهر المسرح الغنائى برعاية الشيخ سلامة حجازى الذى كان يقدم المسرح العالمى معربا ويطعمه بالقصائد العربية التى أجاد أداءها لما تمتع به من صوت حاز الإعجاب ولكن ألحانه كانت غاية فى التقليدية بحيث اعتمدت على نفس أسلوب الأدوار من التطريب الشكلى
فى أوائل القرن العشرين بمقدم سيد درويش تغير كل شيئ فى الموسيقى وقد أحدث الشيخ سيد تطورا حقيقيا وسريعا فانتقل إلى موضوعات جديدة وأشكال جديدة تميزت بقربها الشديد من الموسيقى الشعبية المحلية مع اتباع أساليب حديثة فى التأليف الموسيقى وأصبح للموسيقى بفضله شكل ومضمون
وقد تبع سيد درويش موسيقيون تميزوا بالموهية العالية مثل القصبجى وزكريا والسنباطى وهم وإن اختلفوا فى بعض الأشياء مع سيد درويش إلا أنهم أخلصوا لمدرسته التعبيرية ، وقد أجادوا ثم أضافوا أيضا إلى ما تركه الشيخ سيد
خلال القرن العشرين ظهر شعراء وزجالون موهوبون كونوا ثروة ثقافية هائلة استطاع من خلالها الموسيقيون الجدد تقديم محتوى نصى قيم ومن هؤلاء
بديع خيرى ، بيرم التونسى ، أحمد شوقى ، أحمد رامى ، حافظ ابراهيم ، محمود سامى البارودى ، على محمود طه ، ابراهيم ناجى ، مأمون الشناوى ، حسين السيد ، صلاح جاهين
كما ظهر كتاب وروائيين أثروا الثقافة العامة منهم
محمد تيمور ، توفيق الحكيم ، طه حسين ، عبد القادر المازنى عباس العقاد ، لطفى السيد ، لطفى المنفلوطى ، محمد حسين هيكل ، يحيى حقى ، زكى نجيب محمود ، نجيب محفوظ
وظهرت نخبة من المسرحيين الأكفاء منهم
جورج أبيض ، عزيز عيد ، نجيب الريحانى ، على الكسار ، يوسف وهبى
ومجموعة من السينمائيين منهم
محمد كريم ، أحمد بدرخان ، صلاح أبو سيف ، رمسيس نجيب ، آسيا
ومجموعة من الأصوات الجيدة منها
منيرة المهدية ، فتحية أحمد ، محمد عبد الوهاب ، أم كلثوم ، أسمهان ، ليلى مراد ، عبد الحليم حافظ ، فيــروز
كما ظهرت مجموعة من الملحنين الجدد مثل
محمود الشريف ، فريد الأطرش ، كمال الطويل ، محمد الموجى ، محمد فوزى ، بليغ حمدى ، سيد مكاوى ، الأخوان رحبانى
وإضافة إلى أسباب التغير السريع كان للتقدم التكنولوجى الذى حمله معه القرن العشرين أثرا بالغا فى تغيير أشياء كثيرة ، فقد ظهرت المحركات السريعة فقادت السيارات والطائرات والدبابات وظهر المصباح الكهربائى والتليفون والمسجلات الصوتية والكاميرا والسينما والراديو والتليفزيون وكل ذلك حدث سريعا وترك آثارا كبيرة على الفنون
وبينما لم يدرك محمد عثمان أو الحامولى كثيرا من هذا فقد أدرك سيد درويش الاسطوانات الصوتية والجراموفون ثم أدرك عبد الوهاب السينما فترك المسرح كلية وإن استمر الشيخ زكريا فى المسرح فقد لحن للسينما أيضا كما لحن لها محمد القصبجى ورياض السنباطى بصوت أم كلثوم وغيرها
ومما لاشك فيه أن إضافة الصورة السينمائية بإمكانياتها الهائلة قد غذى الموسيقى بأبعاد جديدة كما زاد من جمهورها
وعلى هذا فقد تراجع نشاط المسرح الغنائى أمام التكنولوجيا الجديدة وأصبح الفيلم السينمائى هو البديل العصرى
على أن السينما لم تكن بمتناول شعوب المنطقة كلها ولذلك فقد طبعت جميع أغانى الأفلام على اسطوانات لاقت نجاحا كبيرا
ثم شارك ظهور الراديو فى تقليل الاعتماد على الاسطوانات كأداة انتشار أساسية ، ومع أواسط القرن العشرين كان فى كل بيت جهاز راديو يبث الأغانى مجانا ليل نهار
ولكن هذه الثورة التكنولوجية أدت فى الوقت نفسه إلى تراجع جمهور الحفلات العامة التى كانت من سمات الحياة الفنية فى العواصم العريية خاصة القاهرة كما تراجع جمهور المسرح قبل ذلك تحت تأثبر السينما ، فتوقف عبد الوهاب عن تقديم حفلاته فى عام 1940 وتفرغ لملء الاسطوانات وإذاعة ألحانه عبر الراديو وقرر استغلال الفرصة لصالحه بالتلحين لغيره من أبطال وبطلات السينما وكون شركة إنتاج خاصة به هى صوت الفن مع المطرب الجديد عبد الحليم حافظ الذى صعد نجمه سريعا فى منتصف القرن ، واعتاد عبد الحليم تقديم حفلات غنائية محدودة مرة كل عام كما فعل ذلك منافسه فريد الأطرش فيما سمى بحفلة الربيع ، وكان لفريد صولات فى السينما قدم فيها أفضل ألحانه لكن جمهور الحفلات كان يمتعه بعزفه المميز على العود وأغنية بعينها هى أغنية الربيع تقدم فى ذات الموسم كل عام
لكن السينما نفسها قد تأثرت بظهور الإذاعة فاتجه الفنانون إلى هذا الوسط الجديد بكل قوة نظرا لسهولة الإنتاج والتوزيع من خلاله فتوقفت أم كلثوم عن السينما عام 1947 بعد فيلمها الأخير فاطمة وقدم عبد الوهاب آخر أفلامه لست ملاكا فى عام 1947 ، وبدأت السينما تتجه أكثر نحو الدراما مع غياب نجوم الغناء إلى أن ظهر جيل جديد من المغنيين كليلى مراد وعبد الحليم حافظ وغيرهما
احتفظت أم كلثوم مع هذا بتقليدها الذى بدأته عام 1934 تقديم حفلة عامة كل شهر ولم تتوقف عن هذا التقليد إلا بسبب المرض عام 1973
أفاد استمرار حفلات أم كلثوم ملحنين كبار كالقصبجى وزكريا والسنباطى الذين اعتمدوا على أم كلثوم فى توصيل ألحانهم للجمهور ، ومن بعدهم كل من لحنوا لها بما فيهم عبد الوهاب نفسه ، والحقيقة أن جمهور أم كلثوم لم ينقطع عنها أبدا من جميع البلاد العربية ، ومن المؤكد أن فن أم كلثوم هو فن من لحنوا لها بالدرجة الأولى
غير أن الظاهرة الفردية طغت على جميع أعمال من جاء بعد سيد درويش باستثناء الشيخ زكريا الذى قام بتلحين أكثر من 60 أوبريت ، وعاد الغناء والطرب الهدف فى المقام الأول وإن ظلت مدرسة سيد درويش التعبيرية تظل الجميع
قامت الإذاعة المصرية بإنتاج عدد من الأوبريتات الإذاعية لملء الفراغ اشتهرمنها عدة أوبريتات لكن تلحينها وأداءها أسند إلى الصف الثانى من الفنانين كما قامت بإنتاج الأغانى الفردية ، وقد أثمر هذا الاتجاه عن زيادة نشاط من كان ليس له نصيب فى السينما ومن هؤلاء من الملحنين أحمد صدقى وأحمد عبد القادر وعبد العظيم عبد الحق ومحمد عفيفى
ومن المطربين ابراهيم حمودة واسماعيل شبانة وكارم محمود وحورية حسن ، وقامت الإذاعة أيضا بإعادة تقديم أوبريتات سيد درويش مثل العشرة الطيبة بقيادة محمد حسن الشجاعى ونجحت فى إعادتها للواجهة فى أواخر الخمسينات
وهنا يجدر تذكر أن موسيقى سيد درويش قد تم مواراتها عن عمد لفترة تعدت الثلاثين عاما ، وكان القصر الملكى وبعض الموسيقيين من قدامى الأكاديميين وراء ذلك ، فلم تسترد أنفاسها إلا بعد زوال سلطانهم عام 1952 وعودة الفنون القومية والشعبية للازدهار
وقد أدى انحسار المسرح الغنائى والحفلات العامة والاعتماد على الفنون المعلبة إن جاز التعبير إلى ظاهرتين جديدتين :
زوال تأثير الجمهور المباشر على المادة المقدمة ، فلم يعد الجمهور يستطيع إعلان حكمه الفورى على أى شيئ يقدم
حرية أكثر للموسيقيين فى إملاء ما يرونه دون خوف من مقاطعة الجمهور فشجع ذلك الكثيرين على إجراء تجارب موسيقية جديدة ، وبعيدا عن السينما فقد كانت المخاطرة مأمونة العواقب نسبيا لعدم ارتفاع تكلفة الإنتاج
فى أواسط القرن العشرين شهدت الموسيقى ازدهارا كبيرا فى مصر بالذات وأنشئ معهدا للموسيقى الأكاديمية الغربية هو الكونسرفاتوار الفرنسى ساهم فى تدعيم الحركة الموسيقية بالعازفين المهرة وقائدى الأوركسترا وصاحب انتشار التعليم العام نشاط تعليم الموسيقى فى المدارس مما أدى إلى ارتفاع حدود التذوق الموسيقى لدى فئات كبيرة من الشعب
كما شهدت تلك الفترة عودة قوية للأغانى الوطنية وعودة أيضا لإحياء التراث الموسيقى فأنشأ عبد الحليم نويرة فرقة الموسيقى العربية فى القاهرة وأنشأ محمد عفيفى فريق كورال سيد درويش فى الإسكندرية
فى أواخر القرن العشرين لم تعد الموسيقى كما كانت فى أوله أو أواسطه ، وإنما تم التخفف تدريجيا من قيود الجدية والأكاديمية بسبب تغير أشياء كثيرة على صعيد السياسة والاقتصاد تغير معها المزاج العام فى المنطقة العربية
فقد حل الشعور بالهزيمة بعد نكسة عام 1967 محل المد القومى وتسببت الحروب فى إضعاف اقتصاد مصر ، وساعد ظهور الثروة البترولية فى الخليج على انتقال مراكز التمويل إلى بلاد الجزيرة العربية ، وقد صاحب حركة الهبوط الفنى فى مصر حركة صعود الفن البدوى القادم من الخليج ، كما قل نشاط الرحبانية فى لبنان
وقد شهد القرن العشرين أنماطا من الفن الهابط فى فترات مختلفة خاصة إبان الحرب العالمية الثانية لكنها ظلت سجينة علب الليل ولم تجد طريقها مطلقا إلى القنوات العامة كالراديو والتليفزيون ، غير أن موجة الهبوط الأخيرة استطاعت فرض نفسها على تلك القنوات مما أدى إلى هبوط الذوق العام ، وزاد الطين بلة غياب الكبار عن الساحة
ولا يفهم لماذا ازدهرت الحركة الفنية فى مصر إبان الاحتلال البريطانى وهى تواجه حكاما طغاة واحتلالا أجنبيا بينما فقرت فى ظل الاستقلال والحكام الوطنيين فى نهايات القرن