التراث برأي هو كل عمل ذو قيمة اعتبارية ومعبرة , حكى حالة من زمن ما , لأقوام ما , مشكلا بهذا العمل أسلوبا ومدرسة واضحة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بحال تلك الحقبة والأقوام , وكل من شارك في تلك اللوحة سواء كان من أقوام ذاك الزمن أو أتى بعدهم ولو بمئات السنين فنتاج ذلك كله هو عمل تراثي قديم وغالب ما يسمى بالتراث هو ما انقرض فيه أصحابه أو هم بالكاد , وكل من عمل عملهم ممن خلفهم ولو بقرون فعمله ذاك هو من صميم التراث كما أسلفت ويلحق حكما بموروثهم لأنه من جنس الصورة والعمل , بل قد يكون أعظم منها , فإن من وضع لحنا أو كتب قصيد ما , لا يُخال صاحبها إلا من أمة قد خلت وقد صور فيها أحوال أناس قد سبقوه بمئتي سنة وكأنه واحد منهم فهو لعمري أعجز وأبلغ ممن كتب وألف من ذلك الزمن
فالشيخ أمين الجندي الحمصي الشاعر الكبير وحين تقرأ أشعاره تجد فيها عبق الماضين وقوة السالفين مع أنه من الشعراء المتأخرين , وحاله , حال يصعب على الكثيرين , فهو في زمن لاحق ويكتب بقوة وعبق زمن سابق , وكأنه واحد منهم , أو راوية عنهم , وهذا من الإبداع العجيب في خلق الله , إذ المعهود والذي جرت به السنة , أن لكل زمان , دولة ورجال
إذا صفوة القول :
أن كل من ألف عملا ما , ضمن لوحة ومدرسة ما , فبحكم الطبيعة ينسب إليها , ومنه : ( كل من أتى بعمل موسيقي ما , سواء كان غنائيا أو من التأليف الآلي الصامت , وحكى به وبأسلوب( بكر وصرف غير مهجن وليس به دخائل من عصره وزمنه) ألحان وموسيقى زمن ماض آخر وبأسلوب تام معبر كان عمله تراثا وينصب في خاناتها
وكل لحن أو عمل صور فيه حال زمنه وعصره كان برأي حديثا ولا علاقة له بلفظة تراث , وقد يصير هذا الجديد قديما وتراثا بعد قرون لمحاكاته حقبة ما وبغض النظر عما إذا كان جيدا وبديعا , أم رديئا وبعيدا
ولله در الشهاب الرملي في قولته :
قل لمن لم يرَ المعاصر شيئا .... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثا .... وسيبقى هذا الحديث قديما
ومن الحكمة وفعل الصواب , عدم العبث بالمورثات لتاريخ الموسيقى والألحان التراثية القديمة , وبأن لا نجر عليها أي تطوير أو إبداع أو تجديد وترميم إلا بما يوافق حال عالمها , وتكوينها الذي نشأت منه وترعرعت فيه وبما يزيدها
زهوا وازدهارا , وحذار من تطعيمها بموسيقى عوالم أخرى فهو إفساد لها وخلط عظيم في بنيتها وتشويه لخلقتها وشخصيتها , وليدع هؤلاء المجددون والداعون للتحديث والتطوير تجاربهم على تلك الأعمال القديمة , وليحكوا حال زمنهم وليخترعوا ما شاؤوا من القوالب والألحان فلن يعيب عليهم أحد ذلك , أما أن يأتي أحدهم إلى لحن موسيقي شرقي بحت , وجرى عليه الكثير من السنون ويوزع فيه الأصوات وعلى النمط الغربي ويدخل فيه الهارموني وخلافه , ويؤديه بأسلوب أوركسترالي وسيمفوني فهو الخطأ بعينه , وتوظيف الشيئ في غير محله وموضعه , ولو شاء أولئك المجددون وكما ذكرت أن يقدموا أعمالا من تأليفهم وألحانهم وبالوجه الذي يحبونه وعلى الطريقة التي يحبذونها فلا ضير من ذلك, و لا باس, وهو مما لن يعارضهم به أحد أو يحاكمهم عليه التاريخ, أما أن يعبثوا بإرث أمم ماضية عظيمة , توالت عليه القرون , وروته جيلا بعد جيل هاتيك السنون , فهو مما أعده عبثا وضربا من الجنون
هذا بالنسبة لتعريف القديم والحديث عنه
وأما بالنسية لتطوير الموسيقى العربية فلها شقان :
الأول: وهو التطوير ضمن المنحى القديم , والعمل معه جد خطير , ويجب أن يشرف عليه ثلة من العلماء الموسيقيين الحقيقيين , ممن أحاطوا بالقديم إحاطة كاملة ولم يغادروا منه صغيرة ولا كبيرة إلا وأحصوها و هذا القديم هو المتمثل بالمدارس الموسيقية الثلاث :
الشرقية التركية والعثمانية منها ,
والعربية كالمصرية والشامية وباقي الدول ممن عنت ألحانها بمقامات الموسيقى الشرقية , وتطويرها بموسيقى كلاسيك الغرب ويتم العمل بذلك وبحذر شديد وتوظيفه بما يخدم الموسيقى الشرقية وبما يزيد من فنونها , نضارة وحضارة
( وهذا التوظيف هو بمثابة اجتهاد وخلق ولا يتم ذلك إلا من قبل موسيقي عشقت روحه القديم فأشرقت معها , وفقه أسرار موسيقى الغرب , فانتقى منها أحسنها , واختار أعظمها وضمها إلى موسيقاه , فانتظمت معها انتظام الؤلؤ في العقد )
الثاني : تطويرها بقدح الملحنين والموسيقيين المعاصرين زند أفكارهم وبدائع قرائهم وتقديم ألحان تعبر عن أحاسيسهم ومشاعرهم وظروف حياتهم وبجميع الأشكال والألوان والتمازجات التي يرونها مناسبة, والتي تعبر بدروها عن زمنهم, وحال عصرهم , ولهم الحرية في التعبير عن ذلك وكما أشرت ولكن ضمن الضوابط واللوازم الراقية والمحتشمة والتي لها صفة اعتبارية وإبداعية , وتتلاقح معانيها مع معاني كل موسيقى العالم المتطور والحضاريةولأي موسيقي الحرية الكاملة والمطلقة في أن يخترع قالبا موسيقيا ما , أو شكلا من أشكال الألحان , فالإبداع والعطاء لا يقفان عند زمن أو حد , (شريطة أن يربط ما أوجده واخترعه بضوابط وأن يضع له قواعد تحدد له مساره وهويته وتبين فيه الفروق عن غيره من المتشابهات والمتماثلات ) وهو مما يدل على (اختراع ) وبغير قواعد وضوابط وشروط لا يسمى اختراعا أو قالبا أو تأليفا جديدا .. فليتنبه لهذا
أما أن يضع الموسيقي لحنا ما , ومن غير تعريف لمساره أو تبيان لحاله أو ذكر لقواعده , فلا يعرف حاله وتصنيفه هل هو بشرفا ؟ أو سماعيا ؟ أو لونغة أو بولكة ...أو اختراعا جديدا ولكنه من غير قواعد تحيط به , فهذا ما أسميه عبثا, وخلطا في الأذواق , أو شيئا غير مسمى ؟( ومثل هذا كثير في زماننا )
والإجتهاد والإختراع في فن ما أو علم لا يتأتى أو يخلد إلا بعد أن يحيط صاحبه بمختلف صنوف ذلك الفن أو العلم , الطارف منها والتليد
وإلا فقد يزعم اختراعا لمقام ما ( وهو لا يحفظ إلا شيئا يسيرا منها ) ومن ثم يفاجأ من أحدهم بوجود ذلك المقام من قبل , فما سيكون موقفه ,
وبقدر ما يمتلئ إناء ذلك المجتهد من ذلك الفن أو العلم ويمتح , بقدر ما إناؤه يرشح , وكما قيل : كل إناء بالذي فيه إن استكناه المخطوطات و تحقيقها و تجميعها على أهميتها و عمق دلالاتها و ما عساها تكشف عنه من الموروث الموسيقي، ممارسة و فكرا لا يرتقي إلى ما تزخر به التسجيلات الموسيقية من معلومات مستفيضة تنقل لنا صورة حيّة عن الفعل الموسيقي الآن و هنا تنبئنا عن زمنها و عصرها.
لذلك تعد التسجيلات الأولى التي قام بها المهندس Sinclair Derby الموفد من قبل شركة Gramophone سنة 1905 لمصر أول محطات الزمن السمعي الذي وثّق للموسيقى العربية و يمكننا بفعل ذلك بعد مرور قرن من الزمن من استقراء المتغيرات خلال هذه الحقبة و إمكانية سحب مظاهر التحول و ظواهره على ما تقدم من العصور و كذلك استقراء ما هو قادم في ضوئها. ففي ضوئها ترصد التحولات الجمالية في الموسيقى العربية من زمن أسطوانة الشمع مرورا بأسطوانة 78 لفة ثم 33 لفة وصولا إلى الشريط الممغنط أكان مفتوحا أم معلبا متفرعا إلى القرص المضغوط حامل لواء الثورة الرقمية بأبعادها المختلفة.
و مهما اختلف الحامل فإن المحمول واحد إبداع يختزل جماليات عصره الموسيقية. لذلك بدا لنا موضوعيا استقراء المتحول و الثابت في الموسيقى العربية في ضوء ما توفر لنا من تسجيلات موسيقية منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم.
و لعل التسجيل يكتسي في الموسيقى العربية أهمية بالغة تفوق غيرها من الموسيقات لأنها قصّرت حتى في عصورها الذهبية فالاهتمام بالتدوين و عوّلت على المشافهة لتوارث الأثر الإبداعي من جيل إلى جيل. و لا يخفي ما عساه يتعلق بالمشافهة من زيغ و تحريف تتسرب من خلاله إضافات تتنافى مع دقة النقل و تعيق الدارس عن النظر الموضوعي في العمل و إلحاقه بزمنه ما دامت قد داخلته متغيرات خلال اخترقه للزمن.
مع أن للمشافهة مزايا لا تنكر و محسنات لا تجحد فبفضلها لا يزال الأثر تتناقله أكف المبدعين بالتزويق و التمتين و التعصير، نافضة عنه ما قد يكون علق به من أثر السنين و من هنات التراكيب تجدد شبابه و تديم ذكره بين الناس.
كما تعد المشافهة الأداة البيداغوجية الأكثر تماثلا مع روح الموسيقى الشرقية عموما و العربية خصوصا، و بتواريها و احتجابها تراجعت قدرة الأجيال الجديدة على الارتجال إلا ما رحم ربك. و هو ما يطرح سؤالا محوريا عن مدى تطابق الأدوات التربوية / البيداغوجية الغربية مع طبيعة الموسيقى العربية ؟ و هل الذئب الأبيض المحترس منه ليس قابعا داخل المؤسسات التربوية منتحلا قناع الصرامة الأكاديمية و نحن لا نزال نوصد الأبواب و النوافذ خشية أن يتسرب من خلالها إلى ديارنا؟.