عاش صفي الأرموي في القرن (7هـ = 13م) تلك الفترة التي شهدت سقوط وخراب بغداد والشام على يد المغول، وهذا جعل الباحثين يرون في ظهوره في هذه الفترة الصعبة بمثابة المعجزة في ضوء الدمار والخراب الذي لحق ببغداد.
ورغم ذلك فقد عاصر الأرموي مجموعة من أعلام الموسيقى الذين توزعت مؤلفاتهم بين النظر في قضايا علم الموسيقى وبيان موقعها من التصوف، ومناقشة أحكام السماع وهم عز الدين المقدسي المتوفَّى (678هـ)، ومحب الدين الطبري المتوفَّى (694هـ) وابن واصل (697هـ)، وقطب الدين الشيرازي المتوفَّى (710هـ)، ونصير الدين الطوسي المتوفَّى (672هـ) وهو عالم وفلكي ورياضي شهير.
وأجمع الدارسون لتاريخ الموسيقى العربية على أن الأرموي كان سباقًا إلى استحداث أمور في مجال النظرية الموسيقية كان لها دور رائد في تطوير الموسيقى العربية ليُعَدّ ما أبدعه بمثابة تحول جذري في مسيرة التنظير العلمي لهذه الموسيقى في مجالات النغم والإيقاع والمعجم الاصطلاحي.
كتابان مهمان
وقد ألّف "صفي الدين الأرموي" كتابين مهمين في الموسيقى، نال بفضلهما مكانة رفيعة من الاحترام والتقدير:
الأول: كتاب "الأدوار في الموسيقى" ويعرف أيضًا باسم "كتاب الأدوار في معرفة النغم". وقد ألفه في شبابه بطلب من العالم الفلكي نصير الدين الطوسي، وتوجد أعداد كثيرة منسوخة من هذا الكتاب في مكتبات العالم أقدمها نسخة محفوظة بمكتبة "نور عثمانية" بإستانبول. وهو كتاب يُعَدّ من أهم المصنفات العربية وأوفاها في معرفة النغم والأجناس وتدوينها.
ويحتوي هذا الكتاب على خمسة عشر فصلاً منها: "الأدوار ونسبها" و"الدوائر النغمية" و"الأجناس اللحنية"... إلخ.
وقد أكدت الدكتورة، فاطمة غريب، أستاذة الموسيقى بكلية التربية الموسيقية جامعة المنصورة أن نتيجة جمع الأرموي للأجناس اللحنية الأصلية والفرعية أخرج لنا 84 دائرة نغمية "مقامات". وقد اشتهر من هذه الدوائر النغمية اثنتا عشرة دائرة أو مقام أصبحت هي الأشهر والأصل في الموسيقى العربية. كما استخرج الأرموي من هذه المقامات الأصلية مجموعة من المقامات الفرعية. وبذلك يعتبر الأرموي أول من ذكر -في أي مرجع عربي معنيّ بالموسيقى العربية- أسماء الأدوار والمقامات الموسيقية الأصلية والفرعية.
الثاني: كتاب "الرسالة الشرفية في النسب التأليفية" وألفه الأرموي بطلب من الوزير شمس الدين الجويني إبان الحكم المغولي لبغداد. ويوجد من هذا الكتاب عدد من النسخ بمكتبات العالم أقدمها نسختان الأولى محفوظة "بجامة بال" بالولايات المتحدة يرجع تاريخها إلى عام (666هـ = 1267م) والثانية محفوظة بمكتبة برلين.
وفي هذا الكتاب تناول صفي الدين بالدراسة والتحليل عنصر "الصوت" من حيث كونه ظاهرة فيزيائية، فشرح كيفية حدوثه، وانتشاره، وتأديته للسمع. ثم انتقل إلى النغمة فعرفها وحدد شروطها، كما عرف "الوساثين" وهي "العلامات التي توضع على سواعد الآلات ذوات الأوتار ليستدل بها على مخارج نغمة معلومة، في أماكن مخصوصة ليستعان بها على التأليف الملائم".
إسهامات
تُعَدّ مؤلفات الأرموي خاصة كتابيه من أهم المراجع الموسيقية التي أرست قواعد المدرسة المنهجية في دراسة الموسيقى في الشرق، ونقطة تحول في مجال الدراسة الموسيقية العربية الإسلامية في عصرها الذهبي، وبذلك أضاف إسهامات عدة منها:
* الخروج بنظرية جديدة للسلّم الموسيقي قائمة على تجزئة السلم إلى ثماني عشرة نغمة محصورة بينها سبعة عشر بُعدًا موسيقيًّا.
* اتبع طريقة لتدوين الألحان وهي طريقة جديدة اعتمد فيها -من جهة- على الحروف العربية الأبجدية مفردة ومركبة للدلالة على الأنغام، والأعداد الرقمية العربية من جهة ثانية للدلالة على مداها الزماني في دور الإيقاع. أي أنه استعمل الحروف لتسمية الدرجات الموسيقية، فيرمز للدرجات العشرة الأولى بالحروف (أ، ب، ج، د، هـ، و، ز، ح، ط، ي). وللحصول على النغمة الحادية عشرة أضاف النغمة الأولى إلى النغمة العاشرة (ي) لتصبح "يا" وبذلك تكون "يب" هي النغمة الثانية عشر إلى الدرجة التاسعة عشر "يط"، ثم وضع جدول ترقيم الحروف بالأعداد
أوعليه فإن حرف الكاف يعني رقم 20 وللحصول على أعداد أكبر يتم إضافة الأعداد العشرة الأولى إلى حرف الكاف مثلاً فتصبح (كا، كب وكج و...).
* والأرموي هو أول من ذكر اسم "أواز" وهو لفظ فارسي للدلالة على اللحن المميز، وأول من عرف النغمة.
* وهو أول من وزع أبيات الشعر على الدرجات الموسيقية "النوتة الموسيقية" مع وضع عدد النقرات الإيقاعية تحت كل نغمة بالأرقام العربية، ويأتي هذا في إطار توسيع استعمال التدوين الموسيقي، وتُعَدّ هذه النماذج "النوتة الأبجدية" هي أقدم وثيقة مدونة تصل إلينا عن الموسيقى العربية.
* وهو أول من استخدام مصطلح "الأدوار" للدلالة على المقامات وهو الذي وضع الدوائر الموسيقية لبيان بنيات السلالم الموسيقية، وجعل عددها 84 دائرة.
نزعتان
وقد ظل الأرموي مثله مثل الذين سبقوه من علماء ومجددي الموسيقى، تتجاذبه نزعتان في حياته المهنية: نزعة نظرية مثالية جذورها تمتد إلى كتابات الفارابي (950هـ) والكندي (180هـ)، وابن سينا، ونزعة واقعية من خلال محاولته تنظيم قواعد ومبادئ الموسيقى العلمية في أطر نظرية مقبولة.
وعلى الرغم من تعدد الأبحاث العلمية فإن كل محاولة لوضع أطر نظرية عامة تفسر وتضمن الموسيقى العربية، نجدها تتهاوى أمام تفاصيل الصناعة العملية بتعقيداتها وتحركها الدائم غير الخاضع للضبط والتوفيق