بدأت علاقة التكنولوجيا بالموسيقي منذ دخولها في صناعة الآلات الموسيقية، وقد كانت الآلات الموسيقية تصنع يدويا ً إلي أن دخلت التكنولوجيا في تصنيع الأدوات المستخدمة في صناعة الآلات الموسيقية لتحسينها وتطويرها، لتعطي الصانع إمكانيات أعلي وتعطي للآلة دقة أكثر، وكان أول ما استفادت به صناعة الآلات الموسيقية من التكنولوجيا هو (الميترونوم) (Metronome)، وهي آلة لضبط الزمن عن طريق إصدار صوت دقات في زمن ثابت يمكن تسريعه وتبطيئه يشبه صوت الساعة، ليحكم زمن العزف في المقطوعة الموسيقية، ليأتي من بعده اختراع آخر، ألا وهو (الديابازون) أو (التيونر) (Tuner) بمعني المصحح الصوتي أو الضابط النغمي، وهو آلة صغيرة صنعت فقط لضبط الآلات الموسيقية، وهو عبارة عن آلة ينفخ فيها بالفم لتسمعنا الأصوات الصحيحة للمدرج أو السلم الموسيقي، الذي وُضِعت ودُوِّنت نغماته الموسيقية علميا ً فيما بعد بواسطة أجهزة متطورة ومتقدمة لقياس ترددات الأصوات، وقد تطور هذا التيونر أيضاً بواسطة التكنولوجيا ليصبح جهازاً إلكترونياً في حجم الموبايل، مزوداً بميكروفون دقيق يلتقط صوت الآلة الموسيقية ليقوم التيونر بتحديد تردداتها ويبعث بها إلي شاشة صغيرة فيه تعطينا بيانات رقمية تساعدنا في ضبط الآلة.
هكذا سار الحال، ولكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، بل دخلت التكنولوجيا أيضا ً إلي الموسيقي ذاتها، فعوضاً عن اختراع آلات موسيقية إلكترونية مثل الجيتار الكهربائي أو البيانو الكهربائي (الأورج) (Organ) المحمل بأصوات الآلات الموسيقية المختلفة ليمكنك العزف علي أصابعه بصوت أي آلة موسيقية أخري، وبالإضافة إلي ذلك يوجد نوع من الموسيقي يسمي بالموسيقي الإلكترونية، وهي تصور عن أصوات سريان الإلكترونات في مساراتها أو أصوات الترددات الصادرة عن الأجهزة الإلكترونية المختلفة وتعزف بها المقطوعة الموسيقية كاملةً ابتداء من الإيقاعات وحتي الأصوات النغمية.
إن الموسيقي التي يصنعها البشر في الأساس ابنة ً شرعية ً للتكنولوجيا منذ فجر التاريخ، حين صنع الإنسان القديم أول آلة موسيقية من نبات البوص بقطعه بالسكين (التي كانت اختراعا هاماً في ذلك الوقت)، وجوفـَّها باستخدام النار وثقبها بأداةٍ أخري، وكل هذه الأدوات تعد من الأدوات التكنولوجية (طبقاً للمصطلحات الحديثة)، فما بالك بالآلات الموسيقية الأخري التي صنعها الإنسان القديم منذ آلاف السنين مثل الهارب والعود وآلات النفخ النحاسية، مثل ترومبيت توت عنخ آمون، ألا تعد هذه الآلات من إسهامات التكنولوجيا؟، وبعد ذلك في عصور الحضارة مثل العصر الذي ولد فيه المؤلف الموسيقي بيتهوفن كان هناك ميكانيكي ألماني يدعي (مايلتزل) اخترع ماكينة لضبط الزمن الموسيقي أسماها ميترونوم، وقد خلـَّده بيتهوفن في مقطوعة موسيقية باسمه ضمن مجموعة كانت تسمي بالموسيقي الرفيعة، وقد حاول مايلتزل فيما بعد أن يصنع مجموعة من الآلات الميكانيكية تركـَّب عليها الآلات الموسيقية لتقوم بعزف مقطوعة بسيطة ساذجة حسب تتابع ميكانيكي معين وذهب إلي بيتهوفن ليريه الاختراع فأعجب بيتهوفن كثيراً بهذا الاختراع وكأنه كان يتمني أن تصل الأمور إلي ما نحن عليه الآن، بالرغم من أن الكثيرين سيعترضون علي هذا التطور الهام في عالم الموسيقي وأولهم أنا، في نفس هذا الوقت تقريباً، كان عالم الرياضيات الإنجليزي ( شارل بابيج ) يحاول أن يصنع ماكينة تقوم بالحساب والمعالجة المنطقية، ولكن كان علي العالم أن ينتظر حتي تظهر الكهرباء، ومن ثم الصمام الإلكتروني، ثم الترانزستور الذي نستطيع أن نحقق به سرعات عالية للذبذبات التي هي القلوب النابضة لما يسمي بالمعالج الصغير (Micro processor ) وهي الأساس الذي بُنـِي عليه جهاز السيكوينسر والكمبيوتر وأجهزة بنوك الأصوات الثابتة (Module) والمفتوحة الذاكرة (Sampler) وأجهزة ال كي بورد (key board)، ومهم جداً في خلال هذا أن نذكر الطريقة التي تتعامل بها هذه الأجهزة مع بعضها البعض ألا وهي الـ (Midi)، وهي اختصار (Musical Instrument Digital Interface )، وبالرغم من أن هذا المصطلح موسيقي متخصص إلا أنه لغة التفاهم ما بين كل هذه الأجهزة بما فيها الكمبيوتر الذي أضاف إمكانيات هائلة لا حصر لها وتزداد يوماً بعد يوم في كل هذه المجالات، مع الكثير من وسائل الراحة والمتعة أثناء العمل، كأن تستعير تركيبة إيقاعية (Loop) من مكتبة البرنامج الذي نؤلف عن طريقه أو نكتب عليه الموسيقي بالنوتة الموسيقية المعروفة أو برموز أخري علي شكل جداول يكتب عليها مصفوفة أفقياً ورأسياً أمام أصابع بيانو افتراضية (Piano Roll )، ونستخدم اللوب بالاستماع إليه كأساس أو أرضية زمنية أثناء تأليف الجمل اللحنية والتوزيعات، ونستطيع أن نستعير الكثير من الجمل المعدة مسبقاً، والكمبيوتر يتعامل مع نوعين من الأصوات، أصوات مصنوعة نتعامل معها بالعزف علي الكي بورد أو بالكتابة في البيانو رول، ونوع آخر من الأصوات عبارة عن عينات صوتية مسجلة من المصادر الطبيعية كالآلات الموسيقية والأصوات البشرية، ونستطيع أن نتعامل معها كترددات وموجات صوتية (Audio Waves) ونجري عليها كل المعالجات الفيزيائية. المهم ألا نظلم الكمبيوتر أو الآلة وكأنها ستحل محل البشر بآلاتهم الموسيقية، المسألة أن العلماء والموسيقيين الذين ابتكروا وطوروا هذا الأسلوب الإلكتروني، كانوا يطمحون لإنتاج موسيقي بنفس الجودة التي نسمعها في التسجيلات وأجهزة الإذاعة، وليس أن نسمعها كما هي من الآلات الحقيقية، لأنها مهمة لا تستطيع أي آلة تحقيقها إلا الآلة الموسيقية الطبيعية، والعازف الإنسان، بناء علي هذا الفهم نجد أن الكمبيوتر وَفَّي بكل المطلوب منه وأكثر، أما الباقي فيخص المبدع، معني هذا أن الكمبيوتر يجعلنا نستغني عن الفرقة الحقيقية إذا أردنا أو اضطررنا، أما إذا أمكننا استخدام الفرق الحية فهذا أكبر ما يحلم به أي موسيقي، المسألة مسألة سهولة حركة وإمكانيات، علاوة علي طبيعة العصر الذي نعيشه تجعل الأشياء المصنوعة والمقلدة محببة إلي قلوب الناس أكثر من الأشياء الحقيقية، ورغم ذلك ما زالت الفرق الحية تعمل في جميع أنحاء العالم، بل تعزف ومعها كل الآلات الإلكترونية والشعبية أيضاً، كما حدث في الحفل الموسيقي في ساحة معبد الأكروبوليس في أثينا باليونان لمؤلف الموسيقي اليوناني يني (Yanni)، بعد أن ظل سنوات طويلة معتمداً علي الكمبيوتر والسيكوينسر في تـأليف أعماله في ألبوماته القديمة التي تجد بها الأفكار الأساسية لمعظم الأعمال التي عزفت بالحفل، والتي تنتشر بين محبي موسيقاه في العالم من خلال وسائط مثل (CD-Flash memory). وهذا أكبر تحقيق للترابط بين البشر بالوسائط الإلكترونية عبر القارات.
صناعة الموسيقي إذن في مجملها لا يمكن أن تنفصل عن التكنولوجيا مثلها مثل كل الصناعات الفنية وغير الفنية، فهي وثيقة الصلة بها ولا يمكننا أيضاً أن نقول عن الموسيقي المصنوعة بواسطة الآلات والأجهزة التكنولوجية الحديثة إنها ليست فناً، أو أن صناعة الموسيقي عموماً لا حاجة لها إلي التكنولوجيا، أو أن التكنولوجيا قد تساهم في تخريب أو إفساد الذوق والوجدان، ويمكننا القول أيضاً إنه لا يمكن أن تكون هناك موسيقي بدون دخول تكنولوجيا في كل مجالاتها، ولكن للتكنولوجيا أيضاً حدودها، فهي وعلي الرغم مما أتاحته لنا من إمكانيات ضخمة وثورة رقمية هائلة تطور وتسهل لنا صناعة الموسيقي، إلا أنها تقف عاجزة أمام الحس الشخصي والذوق الفني للمبدع، فلا يمكن للكمبيوتر وحده (مثلاً) أن يكون آلة إبداع موسيقي أو مؤلفاً موسيقياً، سيظل فقط محاكياً لما يريده المبدع <