التجديد في الموسيقا العربية بين الهوية والإبداع
.. تبقى موسيقانا العربية «ولأسباب عدة» من أكثر موسيقات الشعوب عرضة للتجديد والانعتاق «المجاني» من أسر الموروث وتقاليده وخاصة في بدايات هذه الألفية الثالثة التي تشهد على ذوبان حقيقي وخطر لمفردات الهوية الإبداعية التي تم الحفاظ على دورها وألقها التعبيري عبر مدارس وتيارات موسيقية فتحت نوافذها على الدوام لرياح التغيير والتجديد العقلاني دون المساس بالهوية وخصوصيتها، ودون الذهاب في هذا التجديد إلى حدود الإلغاء والتهميش كما تريده العولمة الموسيقية التي باتت تقدم «خدماتها المؤدلجة» إلى كيانات موسيقية يتبناها عدد غير قليل من الموسيقيين الذين أرادوا القفز وبخطوة واحدة نحو «المستقبل» الذي لا مستقبل له وخاصة مع قتل «الأب» – الموروث- كما يتخيلون في سبيل الوصول إلى مخدع العالمية المزعومة التي هي وكما تنبئ تجارب الشعوب محض خيال ووهم وخداع إيديولوجي ليس إلا!!
ومع إقرارنا هنا أن كل الفنون ومنها الموسيقا ترتقي وتتجدد لغتها ووسائلها التعبيرية عبر استلهام ضروري لتقنيات وأدوات العصر المتاحة، إلا أن ذلك محفوف بالمخاطر لكونه يمس فناً يرتبط بالروح والوجدان وإثراء الذائقة الجمالية للمتلقي أينما كان، من هنا رأينا كيف أن أعلام ورواد هذا الفن النبيل على مر العصور، ارتبطت أعمالهم بهذه الرؤية الخلاقة حيث مرت مسيرة التجديد والحداثة في موسيقاهم عبر طريق واحد هو الحداثة التي تدافع عن قيم الأصالة وتحميها من ثمّ من التشويه والذوبان، وترسخ جذورها المتينة في تربة الحضارة الموسيقية التي هي أولاً وقبل كل شيء تراث إبداعي حقيقي للإنسانية جمعاء.
هذه الرؤية المضيئة لم تغب بأي حال من الأحوال عن أعلام ورواد الموسيقا العربية ومفكري هذا الفن الذين أبدعوا أبحاثاً ونظريات متقدمة ذات قيمة معرفية وإنسانية عليا تركت عطاءاتها في جميع الموسيقات كما تؤكده مصادر الموسيقا التي كتبت على ضوء تأثير الروح الموسيقية العربية في أوروبا وغيرها من بلدان العالم. وهنا تبرز أهمية الانفتاح والمثاقفة وإعلاء روح الحوار مع الآخر موسيقياً وثقافياً؛ هذا الآخر كما نعلم تحاور معه الموسيقي العربي في كثير من المراحل التاريخية من موقع الند للند وشرع نوافذه لاستقبال مؤثرات خصبة أثمرت مشاهد إبداعية مضيئة في كثير من تفاصيل الحياة الموسيقية العربية قديماً ومعاصرة «أليس الفن هو في النهاية إبحاراً ورحلة نحو الآخر» كما يقول غوته الشاعر العظيم.
لكن ومع ذلك لم يستطع الموسيقي العربي المعاصر – والتعميم هنا لا يلغي الاستثناء – من أن يتواصل روحياً ووجدانياً وفكرياً مع إرثه الإبداعي ومن ثم استقراء الظروف الثقافية والاجتماعية التي أدت إلى تفرد وخصوصية الهوية الإبداعية في الموسيقا العربية، وهي ظروف انعكست بشكل عميق على الفكر الموسيقي العربي وإغناء طرق وتقنيات الكتابة اللحنية والصوتية بفضاءاتها الممتدة تعبيراً وجمالاً، بعد أن ترسخت وتجذرت مفردات هذه الهوية وتحديداً المنظومتين المقامية والإيقاعية في أطياف النسيج النغمي العربي وتحديداً بعد ارتحالات عظيمة نحو الموسيقتين الفارسية والتركية، والوصول بفن الارتجال إلى ذرا تعبيرية سامقة قيض له ولحسن الحظ أعلام كبار تركوا إرثاً ممتداً وعظيماً من تقاليده المتفردة المنضوية تحت لواء موسيقات الشرق عموماً وهي بالمحصلة إرث واكب ارتقاءات وانفتاح الذهنية والموسيقية العربية على هذه المؤثرات وأعاد تشكيلها ورسم حدود حضورها وعطاءاتها في جميع تفاصيل الحياة الموسيقية العربية.
إذاً، ثمة مسارات موسيقية عربية التقت في كثير من طروحاتها مع هذه الرؤى؛ ومع استشراف مناخات التجديد انطلاقاً كما أسلفنا من تربة الجذور وفرادة الهوية الموسيقية بعيداً عن المقولات المكرورة المستهلكة التي ترى في التجديد كنوع من الغزو والاستلاب والتبعية للآخر فكرياً وثقافياً، وهذا الرأي يتبناه البعض ليبقى التراث قابعاً في متحفه الأبدي يعلوه الغبار والإهمال والجحود بحجة صون الهوية والحفاظ عليها و...
من هنا نرى كيف أثمرت بدايات ومنتصف القرن الماضي العديد من التجارب الموسيقية المضيئة التي حولت التراث – بعد حقبة التطريب العتيدة – إلى روح وحياة جديدة مفعمة بالأمل والعطاء، تحتفي بكل ما هو أصيل ونبيل ومشع إنسانياً وحضارياً، وقد واكبت هذه التجارب ارتقاءات عظيمة في منهجية الكتابة المعاصرة وبروز تقنيات جديدة وغير مطروقة في اللحنيات والصوتيات وتعزيز دور وقيم الآلة الموسيقية صوتياً وتعبيراً بعد مرحلة ممتدة من الإفقار والرتابة والجمود، ساعد ذلك تخريج مجموعة من الشباب الموسيقيين الذين حازوا المعرفة الضرورية والوعي بأهمية المشروع المستقبلي للموسيقا العربية حيث بدأت النتائج تثمر وتعطي أكلها وحضورها في الطقوس السمع بصرية المغايرة التي كانت مغيبة بفعل تيارات التطريب الحسية الآنفة الذكر، تجارب ونتاجات مهمة لـ«أبو بكر خيرت، جمال عبد الرحيم، عطية شرارة، توفيق الباشا، عبد الغني شعبان، الرحابنة، وليد غلمية، مرسيل خليفة، زياد الرحباني، نداء أبو مراد، شربل روحانا، وفي سورية: نوري رحيباني، صلحي الوادي، نوري اسكندر، صفوان بهلوان، رعد خلف» والفرق الموسيقية المرموقة التي تشع إبداعاً وأصالة كما في كثير من التجارب العربية التي قامت عبر استلهام وتبني الصيغ الغربية الكلاسيكية، اعتماداً على تفاصيل ومفردات الهوية الإبداعية لموسيقاهم العربية بعد أن قرأت في أهمية مسارات التجديد العقلاني، وإمداد روافد هذا الفن بلغة موسيقية مشرقة بحداثتها تستفيد من المناخ الحضاري المشع الذي تعيشه فنون الموسيقا في العالم كله.
إذاً، وبمعزل عن لغة التهجين والتلفيق والاستنساخ الأجوف التي تسيطر على أغلب نتاجات المشهد الموسيقي المعاصر، بما تحمل من لغة قاتمة في استهلاكيتها وسطحيتها وابتذالها نتيجة حتمية للإمعان والإفراط في التقليد واحتضان اللغة الاستهلاكية الغربية التي تنشر قيم الإفساد والانحلال كما نرى في فضائنا الغنائي العتيد وغيره من مكانات إعلامية تبشر بعصر إعلامي معولم بامتياز لا مكان فيه للقيم الموروثة وللقيمة الأخلاقية والتربوية، والإبداع الموسيقي الذي يحتفي بالحياة والقيم الإنسانية الخالدة يحاول العديد من الموسيقيين، العرب أن يبقوا جمرتها متقدة ومضيئة على الدوام عبر فهم أعمق وأرحب لمسارات التجديد في الموسيقا العربية. يقول شاعرنا الكبير «أدونيس»: «... هكذا لم تأت الوثبة الحضارية التي حققها العرب بدءاً من نشوء هذه الدولة من محاكاة الماضي، أو من التقاليد ولم تأت كذلك من التوسل بوسائل الحضارة بوصفها مجرد سلع استهلاكية «كما يفعل الأبناء اليوم»، دون إنتاجية إبداعية خاصة، فلقد نفذ العرب إلى قلب الثقافات التي سبقتهم، وشاركوا في نتاجها، وطوروه منفتحين على قيمها الفنية والمعمارية والأدبية والعلمية، ولهذا أمكن أن يعطوها «وجهاً» عربياً، ورؤية إسلامية- عربية، مدركين أن الحضارة مشروع كبير، حياتي وإبداعي، وليست مجرد سلع وأدوات!!».