تأثر بهذا الاتجاه الموسيقيون الجدد ومضى كثيرون فى تأليف قطع جديدة من الموسيقى البحتة المتحررة من القوالب القديمة والمعتمدة أساسا على الفكرة التعبيرية ، ومنهم من اكتفى بها دون التلحين أشهرهم أحمد فؤاد حسن وعطية شرارة وهما قائدى فرق موسيقية شرقية ، لكن هناك مئات إن لم يكن آلاف غيرهم اتبعوا هذا الاتجاه ، بل إنه أصبح من النادر أن لا يكون لقائد فرقة أو عازف قطعة موسيقية ألفها وأعطاها اسما على طريقة محمد عبد الوهاب!
* التأليف الموسيقى عند عبد الوهاب
بدأ محمد هبد الوهاب مرحلة جديدة تماما فى تاريخ الموسيقى العربية ، إنه يؤلف مقطوعات موسيقية بحتة لا يصاحبها غناء ، وهى ليست على أى من قوالب الموسيقى الشرقية تركية الأصل ، وإنما شكل جديد فيه الكثير من الحرية فى التأليف ، وسنعرض هنا أهم خصائص تلك الموسيقى
* مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية
ا- الخصائص العامة
1- القـــالب:
عدم التقيد بنماذج محددة وتحرر المادة الموسيقية شكلا ومحتوى
2- الزمـــن:
تتميز معظم هذه القطع الموسيقية بقصر زمنها فهى غالبا دقائق معدودة وهى بذلك قد اتخذت زمنا وسطا بين القوالب القديمة التى كان أطولها البشرف وأقصرها الدولاب ، ولم يصل أى منها إلى زمن الموسيقات الكلاسيكية الغربية الطويلة
3- توظيف التعبير:
استخدمت فى هذه القطع إمكانيات مختلفة للتعبير ، ولا شك أن مهمة التعبير فى الموسيقى البحتة أصعب منها فى حال وجود الكلمات ، وقد أثرى هذا الاضطرار حركة الموسيقى عموما فلجأ المؤلف الموسيقى إلى توظيف الأداء الموسيقى بالاهتمام بالأوركسترا وإدخال آلات جديدة وإيقاعات جديدة وتراكيب ميلودية مبتكرة تغنى عن الغناء ، كما أصبحت الحاجة أكثر إلى التوزيع الموسيقى مما أفاد الموسيقى بشكل عام
4- التســمية:
تجتمع هنا اثنتين من الخصائص السابقة هما التحرر من القوالب وتوظيف التعبير لينتجا عنصرا جديدا هو كيفية تسمية القطع الموسيقية ، فتغير أساس التسمية من الأسلوب القديم ، الذى كان يعتمد على 3 عناصر هى اسم القالب واسم المقام واسم المؤلف ، كما فى الموسيقى الغربية ، إلى الفكرة التعبيرية كأساس للتسمية ، ومن هذا نجد عندما ألف عبد الوهاب على النمط القديم أخرج قطعة سميت سماعى هزام لعبد الوهاب ، أى موسيقى فى قالب السماعى من مقام هزام لعبد الوهاب بينما أول قطعة له على النمط الجديد أسماها فكرة
وهذا الاتجاه كان قد ظهر فعلا فى الموسيقى الكلاسيكية الغربية فأطلقت على بعض القطع أسماء تعبيرية مثل سيمفونية القدر أو البطولة لبيتهوفن ، وحلم ليلة صيف لموتسارت ، لكن هذا كان فى أضيق الحدود بينما أطلق عبد الوهاب هذا الأسلوب فى التسمية ليكون الأسلوب الوحيد وأعطى لكل مقطوعة عنوانا حاول التعبير عنه بالموسيقى
لكن تغير أسلوب التسمية لم يكن مجرد تغيير شكلى ، فقد فتح هذا الاتجاه الباب على مصراعيه للتحرر والتعبير معا ، فالمؤلف لا يتقيد بقالب ولا بمقام وفى نفس الوقت لديه معنىَ يريد التعبير عنه ، واستهوى هذا الأسلوب من بعده وأصبح الأسلوب العصرى
5- الأداء والآلات
استخدام آلات جديدة وابتكار استخدامات جديدة للآلات التقليدية ، واستخدام أكثر للأوركسترا
6- المقامات
استعمال متميز للمقامات الشرقية بإدخال جمل جديدة بعيدة عن الجمل التقليدية
7- الإيقاعات
إدخال تراكيب إيقاعية جديدة
8- التوزيع الموسيقى
استخدام التوزيع الموسيقى وتوظيف أسلوبى الموسيقى العالمية المعروفين الهارمونى والكونترابوينت كلما أمكن
9- المحليــة
إدخال عناصر من الموسيقى الشعبية إلى الموسيقى البحتة ، أدت حركة التحرر هذه إلى إمكانية استخدام الموسيقى الشعبية بحيث يمكن إظهار الهوية المحلية من خلال الموسيقى البحتة ، وهو ما لم يكن متاحا باستعمال القوالب التقليدية التى تميل أكثر إلى التجريد والزخرفة وإظهار مهارات العازف
10- استخدام جديد للصوت البشرى
أدخل عبد الوهاب مقاطع صوتية فيما ليس لا بغناء ولا بآهات أو همهمات أو ماشابه ذلك ، وإنما كلمات قصيرة قد تكون كلمة واحدة يؤديها صوت كورال أو صوت فردى للحظات وسط القطعة الموسيقية ، ففى حبيبى الاسمر رددت المجموعة لاسمر .. حبيبى الاسمر .. حياتى الاسمر .. ، وفى عزيزة كانت كلمة واحدة فى المقطع الراقص ، يا وله ، فى حوار غاية فى الطرافة مع الجمل الموسيقية ، وفى زينة كانت الكلمات زينة والله زينة يا زينة
وعموما فإن الصوت البشرى كأداة وسط المنظومة قد أدى عدة وظائف حسب موقعه فهو تارة لتأكيد إيقاعية الجملة بما للكلمات من وقع موسيقى ، وتارة لترديد نغمة شعبية ، وأخرى لتأكيد غنائية مقطع بعينه
وإدخال مثل هذه المقاطع الصوتية فى منظومات موسيقية ابتكار جديد لعبد الوهاب لم يسبقه إليه أحد ، وإن لم يقلده أحد بعده
ب- الموسيقى المتطورة
من الملاحظ أن عد الوها لم يبدأ موسيقاته هذه من فراغ ، وإنما نلمح فى موسيقاته المبكرة ملامح من القوالب القديمة مثل التحميلة والتقاسيم ، وإن جعلها مكتوبة ومنع عنها الارتجال ، وخانات الإقفال السريع المثلثة الكروشات كما فى السماعيات ، والعودة إلى تسليم كما فى معظم القوالب الشرقية ،لكنه فى تلك الأعمال لم يلتزم بقالب بعينه ، فيأخذ جزءا ويترك آخر ، أو يمزج شكلا من قالب مع شكل من قالب مختلف ، ثم تحرر شيئا فشيئا من الجميع ، ولا شك أن من يستمع إلى موسيقاه فى الثلاثينات والخمسينات مثلا سيلاحظ فروقا كبيرة ، لكن مع دخول الستينات كانت موسيقاه قد اتخذت شكلا مغايرا تماما لما بدأ به
زاد عبد الوهاب من اهتمامه بالموسيقى البحنة ، وأضاف موسيقى جديدة مثلت قمة نضوج التأليف الموسيقى لديه مثل حياتى ، الخيام ، وهدية العيد التى استخدم فيها موسيقى القرب الاسكتلندية
وأكثر موسيقات عبد الوهاب تطورا على الإطلاق موسيقى حياتى وموسيقى الخيام ، وقد استخدم فيهما عبد الوهاب الأوركسترا الكامل بتوزيع فائق الجودة ، وكان مايسترو عبد الوهاب أندريا رايدر وراء نجاح هذين العملين اللذين خرجا فى أبهى صورة ، وبهما طرق عبد الوهاب آفاقا جديدة فى الموسيقى العربية لم يتمكن أحد قبله ، ولا بعده ، من الوصول إليها ، ومما لا شك فيه أنه لمس بهما أبعاد الموسيقى العالمية رغم احتفاظهما بالطابع الشرقى