صميم الشريف كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية إثر النجاحات التي حققها الراحل منير بشير والمبدع نصير شمة عن مدارس العود ، ولاسيما مدرسة العود العراقية ،
غير أن أساليب العازفين في مصر ، على سبيل المثال احتفظت باستقلاليتها ولم تدمج ، وظل كل مدرس من المشاهير يتبع أسلوبه ورؤيته الخاصة في تعليم العود ، الأمر الذي لم يستفد الدارسون من أساليبهم مجتمعة ، بخلاف المنهاج التعليمي الذي وضعه الشريف محي الدين حيدر لمعهد بغداد الموسيقي ، وتابعه من بعده تلامذته وأضافوا عليه حتى صار بحق مدرسة قائمة بذاتها عرفت بمدرسة العود البغدادية ، فمن هو الشريف محي الدين حيدر . يعد الموسيقي الشريف محي الدين حيدر ( اسطنبول 1892 – بغداد 1964 ) بن الأمير علي حيدر ، سليل الأسرة النبوية الشريفة ، المؤسس لمدرسة العود البغدادية ، تعلم العزف بالبيانو ثم بالعود طفلا حتى اتقنهما ، وتعلم العزف بالكمان الجهير – violoncello - في الرابعة عشرة من عمره حتى صار من أمهر العازفين بها ، دون أن يصرفه كل هذا عن متابعة تحصيله التعليمي الذي أنهاه بإجازة من كلية الحقوق. في اعقاب الحرب العالمية الأولى ( 1914 – 1918) وتحت وطأة الاضطرابات التي عصفت بتركيا بعد هزيمتها ، والنظرة الدونية والعدائية لكل ماهو عربي في تركيا ، هجر اسطنبول عام 1922 عائدا الى موطن اجداده في مكة ، فمكث فيها زمنا ثم غادرها الى حلب التي ظل فيها حتى عام 1928 ،
FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT="
ثم سافر الى بغداد ومنها الى الولايات المتحدة الامريكية ، فأقام فيها بضع سنوات اتصل خلالها بمشاهير الموسيقيين والعازفين من أمثال “ كرايسلر “ و “ هاشا هايفست “ وأحيا بتشجيع منهما عددا من الحفلات بعوده ، قبل أن يستدعيه قريبه ملك العراق فيصل الأول عام 1933 ليتولى شؤون الموسيقى فيها ، وفي العام نفسه مات الملك ، وتوقف مشروع تأسيس المعهد الموسيقي سنوات عدة ، إلى أن تم ذلك بمبادرة من الموسيقي حنا بطرس والد الموسيقي باسم بطرس المقيم حاليا في نيوزيلندا ، في شهر ايلول – سبتمبر – عام 1936 ، واتخذ له مقرا في منطقة “ المربعة “ في بغداد ، وبعد أشهر على ذلك ، أي في مستهل عام 1937 ، تولى الشريف محي الدين حيدر ادارة المعهد خلفا لحنا بطرس . فعمد الى تحويل المعهد الى ما يشبه الاكاديمية الموسيقية لدراسة الموسيقى بشقيها الغربي والشرقي على أسس علمية صحيحة ، وتعاقد من أجل ذلك مع مدرسين قديرين من مثل الدمشقي “ عبده الطباع “ لتدريس الناي ، والأرمني “ نوبار مخلصيان “ لتدريس القانون ، وأنيس جميل لتدريس العزف بالكمان الغربي ، ومثله الروماني “ساندو البو “ وزميله جوليان هرتز لتدريس البيانو ، إضافة للمدرسين العراقيين المختصين بفن المقام خاصة والغناء عامة ، وتولى هو بالذات تدريس العزف بالكمان الجهير وبالعود ، ناسفا بالنسبة لآلة العود من وراء دراسته المعمقة لها ، وللآلات الوترية الأخرى بما فيها ذوات الأقواس . التقاليد المتبعة بتدريس العزف بالعود وهو أسلوب منهجي صارم ومتميز استقى قواعده وأسسه من المناهج الغربية في تعليم العزف ، ولابد لدارسي العزف بالعود من اتباعه ليصيروا عازفين مبدعين ، وكان من أوائل تلامذته الأخوان جميل ومنير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وجورج ميشيل ، ومن ثم عازف العود الفلسطيني الراحل روحي الخماش الذي نزح بعد مأساة تقسيم فلسطين عام 1948 ، الى بغداد ليصير من تلامذته بعد اتباعه المنهج الذي ابتدعه. يقوم منهاج الشريف محي الدين حيدر أساسا على تطبيق العزف بالكمان الجهير بالعود ، وبمزج هذه الأساليب بأساليب العزف بالعود ، وباستعمال طريقة العزف بالريشة التركية المعروفة “ بالريشة المقلوبة “ حيث يضرب العازف علامتين زمنيتين الأولى بهبوط الريشة والثانية بصعودها ، وهذه الطريقة توفر نصف السرعة ، وتستعمل في العلامات الزمنية السريعة مثل : ذات السنين / دوبل كروش / وذات الثلاث أسنان /تريبل كروش / اللتين لايمكن عزفهما تقربيا الا بالريشة التركية ، ولما كانت علامة ذات الثلاث أسنان ، لاترد الا نادرا في السماعيات والبشارف واللونغا ، ولاترد ذات الأربعة أسنان فيها اطلاقا ، فإن الشريف محي الدين ملأ بها تمارين العود التي استقى جلها من مدونات التمارين في الموسيقى الغربية ، وهو لم يتوقف عند الاشتغال بهذه التمارين لخلق العازف المتمكن ، بل اهتم ايضا بأصابع العازف الذي كان لايستعمل منها سوى السبابة والبنصر ، واحيانا الخنصر لمس الوتر ، فجعله يستعمل أصابعه الخمس في العزف اسوة بالعازف الغربي ، وهو ايضا لم يكتف بذلك بل عمد الى مزج الأسلوب المصري في الارتجالات – التقاسيم – ليغني العازف الدارس بتقنيات العزف كافة ، وهذا الأسلوب معروف باسم “ البصم “ وفيه يستغني العازف في التقاسيم ولاسيما في نهاياتها عن ضرب الريشة بالنقر ، فينقر الأوتار بأنامل يده اليسرى من دون الريشة ، فيهوي بأصابع يده اليسرى بقوة على العلامات المطلوبة ليحدث الرنين المطلوب ، ويرفعها صعودا لينقر الأوتار بأطراف أصابعه من ناحية الأظافر بحيث لاتترك الوتر الا بعد نقره محدثة رنينا خافتا ممتعا . أضاف الشريف محي الدين حيدر وترا سادسا للعود ، وكان محمد القصبجي قد أضاف هذا الوتر ثم استغنى عنه ، لأنه لم يتوصل للهدف الذي توصل اليه الشريف محي الدين ، إذ لم تكن غاية الشريف محي الدين تسهيل العزف التقليدي ، وإنما الحصول على مزيد من النغمات ، واستغلال طاقة العود الى أبعد مدى ، وهذا مااستطاع تحقيقه بتطبيقه الأوضاع السبعة لأصابع اليد اليسرى المتبعة في الأسلوب الغربي ، حيث سهلت للعازف تصوير النغمات والانتقالات فيما بينها ، فلم تعد أصابع اليد اليسرى في العزف تقتصر على التدرج التقليدي بين الاوتار ، وإنما صارت تزحف في أدائها بفضل الأوضاع السبعة لغاية حامل الأوتار تقريبا ، وهذا كله هو الذي جعل مدرسة العود البغدادية بالقواعد والأسس التي قامت عليها تتفوق على غيرها من مدارس العود المختلفة ، حتى أن تركيا أسست معهدا في اسطنبول اتبعت فيه ماجاء به الشريف محي الدين وأطلقت اسمه عليه . تابع تلامذة الشريف محي الدين حيدر اصلاحاته التي رفعت من شأن هذه الآلة التي كادت أن تصير آلة متحفية وحققوا انتصارات مذهلة لها ، وأول هؤلاء جميل بشير الذي أضاف الشىء الكثير على تقنيات العزف بالعود إضافة للكتاب الجامع عن العود وطرق تدريسه ، الذي يعد أهم كتاب صدر حتى الآن في هذا المجال . ومثله فعل الراحل سلمان شكر وغانم حداد ، أما منير بشير فلم يضف شيئا ، إذ على الرغم من شهرته التي تجاوزت الآفاق ، فلم يعط سوى المهارة في العزف وخلق نوع من التأمل في ارتجالاته خاصة ، وهو في رأي الموسيقي العراقي الراحل “ فريد الله ويردي “ جرد العراق من جميع المحاولات التجديدية للارتقاء بالفن الموسيقي الذي وضع أسسه الشريف محي الدين منذ ثلاثينيات القرن الماضي ،وهذا الرأي يتفق الى حد ما مع قول المبدع “ نصير شمه “ إن لمسات منير بشير انتهت منذ رحيله عام 1997 ، في حين مازالت إضافات أخيه جميل بشير شاخصة حتى الان مع أنه غادرنا قبل مايزيد عن ربع قرن ، كذلك ابداعات سلمان شكر وغانم حداد فهي مازالت مستمرة . ونصير شمة الذي يعمل بدأب على تأسيس “ بيت العود العربي “ في كل قطر عربي دون كلل ، يحقق بعمله هذا انتصارات كبيرة لآلة العود ، ولمدرسة العود البغدادية ، دون أن ينسى في غمار كل هذا العمل ، تخليد مؤسس هذه المدرسة اعترافا منه بانجازاته العظيمة . ألف الشريف محي الدين حيدر قدرا لايستهان به من المؤلفات الموسيقية من أبـــــدعها “ كونشرتو العود “ الذي سار على غراره جميل بشير ، وسماعي من مقام عشاق ، والطفل الراكض وليت لي جناح . الحديث عن مدرسة العود البغدادية لم ينته ولنا وقفة أخرى معها ومع مبدعيها .