وقيم جمالية وفكرية يفرضها عادة الواقع الذي ولد من رحمه اهتمامات المؤلفين الموسيقيين وحاجاتهم الاجتماعية والفكرية والتنافسية، وغالبا ما يتم الإطاحة بالعرف السائد والانقلاب عليه، بغية ولادة أساليب للإنتاج الموسيقي تختلف عما حولها، وما كان التحول من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية في الموسيقى في الربع الأول من القرن التاسع عشر إلا بداية لتحولات شديدة التباين والتسارع يقودها في بعض الأحيان مؤلف واحد ليقنع الآخرين بتفرده. وحين نذكر التحول من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية لا ننسى إن هذا التغيير في البناء الشكلي للموسيقى وما تضمنه من معطيات جديدة في التوافق الصوتي والمسار اللحني، لم يأت ِ فجأة، بل كان جزءا ً من تحول ٍ فكري ٍ كبير تغلغل في كل أشكال الفنون وأولها فنون التشكيل التي قدمت الرومانتيكية بشكل سريع وثوري مشحوناً بالجمال والعاطفة التي تعكسها الشخصيات، وكأن التشكيليين أرادوا الغوص في أعماق الإنسان ليستحضروا الحزن والفرح والإعجاب والكمال .
ولم يكن الموسيقيون الذين توارثوا صنعة الموسيقى الكلاسيكية من أساتذتهم الثائرين على أصول البوليفونية الباروكية إلا شهود عيان على ما يجري حولهم من نتاج لأجيال ٍ تستعين بتقنيات الأداء العالي والمهارة لتوظفها في موسيقى أكثر تلوينا ً وأكثر مساحة صوتية وأكثر حرية في الشكل تلاه انقسام وتكاثر في المضمون وتحديث للنسيج الصوتي الذي لم يعد عمودي الطابع في توافقه. وقد صاحب هذا الانقلاب التدريجي انطلاقات فكرية جعلت من الصعب حصر التحولات التي أخذت بالابتعاد عن دائرة الموسيقى الألمانية باعتبارها بؤرة الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، هذا الابتعاد أوجد ما يسمى بالرومانتيكية الجديدة و(ما بعد الرومانتيكية) حتى شهدت الموسيقى المبتكرة نزعات قومية استلهمت الهوية الشعبية عبر توظيف التراث القصصي والحضارة الحركية المتمثلة بإيقاعات الرقصات والألحان الشعبية، رافقتها تقليعات فردية في كسر حاجز السلم الموسيقي وقواعد البناء الهارموني وملامح القالب الفني، وصولا إلى أشكال لا حصر لها وأساليب لا حد لها ، ما دفع المؤرخين إلى تسميتها في أوائل القرن العشرين بالموسيقى الحديثة أو المعاصرة.
وكان للتطور الهائل في المجال التكنولوجي دوره الفاعل في تقديم الموسيقى إلى جماهيرها عبر الأثير وشاشة التلفزيون وقاعات الكونسيرت العملاقة المزودة بأجهزة التضخيم الصوتي ووسائل الإضاءة والمؤثرات الليزرية والتي أسهمت في ظهور ما يسمى بالموسيقى الإمبريالية كطابع فني معاصر قائم على الفخامة في الإنتاج والتأنق في العرض والبريق واللمعان الذي تبالغ الوسائل المساعدة في إبرازه.
ولعل ظهور الموسيقى الإمبريالية كان أمرا ً فرضته الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية من تنام ٍ وانتعاش في الساحة الأميركية التي استقطبت العديد من الفنانين الأوروبيين والآسيويين الذين راودهم الحلم الأميركي وسعوا نحو العالم الجديد المتعدد الأديان والقوميات والأجناس البشرية المختلفة الثقافات، والتي كانت حقلا ً واسعا ً لكل الفنانين التجريبيين الذين استعرضوا امكاناتهم وتقليعاتهم الانطباعية تارة ً والواقعية تارة ً أخرى، متصارعين مع تيارات من الموسيقى التي افرزها الواقع الاجتماعي المتلاطم حضاريا ً واقتصاديا، وكان ابرز التيارات النابعة من قعر المجتمع فن الجاز، وهو ما أنتجه الاميركيون الأفارقة الذين أتقنوا صنعة العزف والغناء مستلهمين موروثهم الغنائي والحركي وما يتضمنه من إيقاعات معقدة التركيب وألحان غير مألوفة على الأذن الأوروبية والآسيوية.
إن هذا المخاض أوصل كتاب الموسيقى إلى حقيقة أن الجماهير أصبحت معتادة على التغيير و التنويع ومتطلعة إلى تذوق موسيقى الشعوب، وبخاصة الشعوب ذات العمق الحضاري وريثة الحضارات الشرقية القديمة، وهذا ما دفع الكثير من كتاب الموسيقى إلى الإطلاع على موسيقى الشعوب وفهم هويتها الروحية النابعة من أصوات آلاتها الموسيقية التقليدية المتنوعة وطرق الأداء عليها وسلالمها وإيقاعاتها رافق ذلك انتشار لفكرة تحويل العالم إلى قرية صغيرة عبر ثورة الاتصالات وما نتج عنها من تطور وسائل الاتصال الرقمية وشبكات المعلومات. وجاءت موسيقى العولمة والتي سميت موسيقى ( العصر الجديد ) التي تستطيع التعبير بحرية لا حدود لها بعد توظيف كل ما يمكن من وسائل البرمجة الصوتية وتشكيلات موسيقية مختلفة كالاوركسترا الكامل ومجموعة (الباند) والكيتار الالكتروني والأرغن الالكتروني وعدد كبير من الطبول والآلات الإيقاعية الجلدية والبلاستيكية .
وقد تجلت موسيقى العصر الجديد في السينما ووجدت أسسا ً جديدة للتعبير وخصوصا في الأفلام الملحمية التي تطلبت من مؤلفي الموسيقى استخدام آلات موسيقية قديمة وإحضار عازفين من نفس بيئة المناطق التي تروي هذه الأفلام ملاحم شعوبها، من اجل بناء موسيقى تعكس واقع الفيلم من خلال أسلوب محاكاة الصورة بالصوت وليس التعبير الخيالي التجريدي الذي استخدمه المؤلفون في مجالات أخرى والذي يحمل هو الآخر قيمة فنية كبيرة. وقد سارت موسيقى العصر الجديد جنبا إلى جنب مع الكثير من الأساليب الموسيقية الكلاسيكية والحديثة فقد شهد القرن العشرين تداخلا وتنوعا في أساليب تقديم الأعمال الفنية فمثلما انبثقت موسيقى الجاز وموسيقى العصر الجديد كان ومازال العديد من المؤلفين الرومانتيكيين والانطباعيين الجدد مثل الموسيقار الأمريكي الروسي الأصل (أيغور سترافنسكي) مستمرين في عطائهم الإبداعي في مجال الأوبرا والاوبريتو والباليه الذي اكتسب الكثير من التحديثات والتقنيات المعاصرة .
وأكثر ما يميز موسيقى العهد الجديد هو سرعة انتشارها وقدرة الشعوب على اختلافها فهمها واستهلاكها، فهي تخاطب العقل والروح والجسد في آن ٍ واحد، ويسمع في ثناياها العمق الحضاري والتاريخي قادما من أقصى بقاع الأرض وأصواتا ً غير مألوفة مغلفة أحيانا بأرفع ما وصلت إليه الموسيقى العالمية من إنشاد كورالي وفوران اوركسترا لي وتقنيه أدائية وغنائية صادحة تدعمها وسائط إظهار الصوت اللامنتهية التنوع والتأثير الذي ترافقه أحيانا ً حزم من الضوء المتلون والمتقطع إيقاعيا وإشعاعات ليزرية تشكيلية صنعت خصيصا لأجل الموسيقى المراد تقديمها لزيادة الزخم الذي يحتاج الإنسان إلى التركيز لاستيعابه بمجمله وتذوقه بكامل صورته .
وتعتمد موسيقى العصر الجديد أسلوب الفريق ولم يعد من الممكن أن يقوم فنان موسيقي بمفرده بإنجاز العمل كما قد يعتقد المهتمون بفن الموسيقى، فهناك العديد من الأشخاص الذين يعملون من اجل إنجاز وتقديم العمل الفني سواء حين يتم تسجيله أو في حالة تقديمه على شكل كونسيرت أمام الجمهور... وأصبح دور المخرج هو الدور الرئيسي، ويقوم على موسيقى العصر الجديد فريقا من المخرجين في سبيل إتمام العمل أولهم المخرج السينمائي أو التلفزيوني ومخرج الحفل المسرحي ومخرج الصوت ومخرجي الإنارة والحركة والرقصات التعبيرية، ويعمل هؤلاء لإخراج العمل الفني الذي تشترك فيه فنونهم بصورة فخمة وبراقة، خدمة للموسيقى التي زاد تعقيدها حتى أمكن لسامعيها أن يشموا عبق عصور الرينسانس والباروك في طياتها ونغمات من الكلاسيكية والرومانتيكية في إطار ٍ من القوالب والصيغ الموسيقية لا يمكن أن تحدد لها ملامح مطلقا، والتي قد تصل أحيانا ً إلى مجرد همسات أو لمسات أو نفحات تخدم تعبيرا ما.