لطالما كنا نستمع وما زلنا إلى انتقادات لبعض الألحان التي تصدر في عالمنا العربي، ويتم ردها إلى أصولها، أو سرقة بعض جملها اللحنية، من الموسيقى التركية. هذه الإشكالية القديمة، ما تزال فصولها متسلسلة، مستمرة وآخر فصل فيها، وليس الأخير، كان طرح "المجمع العربي للموسيقى"، الموضوع الشائك علمياً لا اجتماعياً أو أخلاقياً فحسب، في مؤتمره الثامن عشر الذي عقد الأسبوع الماضي ولثلاثة أيام في جامعة الروح القدس، تحت عنوان "التثاقف الموسيقي العربي التركي".
مداخلات عدة وأبحاث قدمت في المؤتمر المذكور، تناولت مسألة تلاقح الموسيقى العربية والتركية، بعضها غاص في التقنيات الموسيقية العلمية من حيث السلالم واختلافات كل منها في الموسيقى العربية، والأخرى التركية، وكذلك آراء العلماء المعروفين ودراساتهم وتدوينهم ملاحظاتهم في هذا السياق في كتب تاريخية شهيرة أمثال صفي الدين الأرموي في مؤلفاته مثل "الرسالة الشرفية" وغيرها، والفارابي وإبن سينا وكذلك، في المقابل طرح الدراسات والتدوينات التي حفلت بها الموسيقى التركية والتركيز على رؤوف يكتا وإرل وإزكي.
ورغم أهمية الأبحاث المذكورة، في استعراض أوجه الاختلاف والالتقاء بين الموسيقين وسلالمهما، والعثور على مدى الثراء فيهما، إلا أن المسألة بقيت تدور في الإطار التاريخي للتثاقف، وصولاً إلى أوائل القرن الماضي (العشرين) من دون أن تصل إلى كيفية أو أشكال التطبيق، ورموزه إلا قليلاً كما في تجربة عبده الحامولي، ومن دون الوصول إلى آثار التثاقف ـ بين الموسيقى التركية والعربية ـ الحالية وأين أصبحنا منها اليوم، وقد أدرجت أمثلة قليلة، في بلدان مثل مصر وبعض بلدان المغرب العربي وسوريا ولبنان وتركيا، في حين أغفل التطرق أو حتى المرور على العراق حيث التثاقف كبير هناك بين الموسيقين، وقد يعود هذا في الدرجة الأولى إلى مداخلات الحاضرين من لبنان وسوريا ومصر وتونس والجزائر وغيرها فيما غابت مداخلات من العراق رغم حضور أعضاء في المجمع عراقيين.
في الوقت الذي يتردد على أسماعنا إننا أخذنا من الموسيقى التركية الكثير، نعثر في الموسيقى التركية وبخاصة الإنشاد الصوفي القديم المغنى باللغة العربية الأصلية، مقامات وسلالم، تؤكد التزامها بمسيرة عربية خالصة باعتراف المنشدين أصحابها. وفي مداخلة الباحث التونسي محمود قطاط أكد على تأثر الأتراك بمبادئ الإسلام حين اعتنقوه بكل ما يشمله من خصائص كاللغة العربية، لغة القرآن والتلاوة والتجويد، ومن ضمنها قواعد الغناء والموسيقى العربية التي ازدهرت في القرن العاشر الميلادي.
فيما ركز الباحث والموسيقي نداء أبو مراد في مداخلته على انضمام العنصر التركي، إلى التقليد الموسيقي العربي الفارسي، الذي كان سائداً، وحضور نظرية الأرموي في تقسيم الديوان مروراً بالنهضة العثمانية وابتداع تراكيب مقامية جديدة وصولاً إلى نهضة الموسيقى في العصر الحديث (بين القرنين 19 و20) في مصر ولبنان وسوريا، ودراسات كامل الخلعي وتمييزه بين المقامات الأصلية في مصر والجديدة الناتجة عن عملية التثاقف مع العثمانية، ومثالها عبده الحامولي الذي قام باقتباسات مقامية عن التقليد العثماني. هذا وتطرق مراد إلى ميخائيل مشاقة ورأي اسكندر شلفون في هذه العملية إذ طالب باستقلال الموسيقيين العرب بموسيقاهم كما يفعل الأتراك مع إدراك الفروقات بين الموسيقى التركية (القاسية) والعربية (الرقيقة)...
ونذكر من مداخلة الباحث فيكتور سحاب، إيراده بضعة ملامح من عملية التثاقف، كإرسال الخديو اسماعيل موسيقيين إلى فرنسا وإسطنبول أواخر القرن التاسع عشر، مثل الحامولي واكتساب بعض القوالب في المعزوفات مثل اللونغا. ثم أثر اشتراك وفد تركي كبير في أول مؤتمر للموسيقى عام 32 في القاهرة، إلى المعهد الموسيقى الذي أنشأه الأتراك في أنقرة باسم محمد القصبجي وهذه في ذاتها ذات دلالة هامة على التثاقف الموسيقي بين العرب والأتراك.
كلمة حقة ختم بها سحاب مداخلته بقوله إننا لم ندرس كفاية هذه الناحية من ماضينا القريب ولم نحص ما أخذنا من الأتراك وما أعطيناهم، وأننا اتخذنا موقفاً سلبياً في غالب الأحيان من هذا التثاقف، ولا بد أن نبدأ بمعالجة هذا الموضوع من الناحية العلمية النزيهة بعيداً من أثر أي عقيدة سياسية أو تاريخية.
http://www.almustaqbal.com