محمد القصبجي.. الموسيقي العاشق
مزج بين اللون الغربي والفن الشرقي
على مقعده الخشبي رضي بالجلوس وراء «الست» محتضنا عوده لسنوات، مؤثرا أن يكون عضوا كباقي أعضاء فرقتها وهو الموسيقار الكبير، الذي أثرى الموسيقى العربية بالعديد من الأعمال التي كانت سببا في تطورها. هذا هو العملاق محمد القصبجي، الذي لحن لنجوم الطرب في عصره، بدءا من منيرة المهدية وصالح عبد الحي ونجاة علي، مرورا بليلى مراد وأسمهان، وانتهاء بكوكب الشرق أم كلثوم، التي عشق العزف على آلة العود في فرقتها ليظل بجوارها، حتى أنه عندما مات في نهاية الستينات ظلت «ثومة» محتفظة بمقعده خاليا خلفها على المسرح تقديرا لدوره ومشواره معها.ولد محمد القصبجي في الخامس عشر من أبريل (نيسان) 1892، وهو نفس العام الذي شهد مولد الفنان سيد درويش. وكان والده هو الشيخ علي إبراهيم القصبجي، الذي عُدَّ من أشهر منشدي ومقرئي حي عابدين في القاهرة. ليس هذا فقط، بل كان مولعا بالتلحين على آلة العود، التي كان عاشقا لها، ولهذا فقد غنى من ألحان الشيخ علي إبراهيم القصبجي كبار مطربي عصره من أمثال عبده الحامولي، وزكي مراد، والد المطربة ليلى مراد، وصالح عبد الحي، والشيخ يوسف المنيلاوي. وأصر الشيخ علي، على أن يعلم ابنه محمد فن التجويد الذي يعد الجامعة التي تخرج فيها كبار الملحنين في عالمنا العربي، وعلى رأسهم سيد درويش ومحمد عبد الوهاب. وقد تخرج الابن محمد القصبجي في مدرسة عثمان باشا بعد أن درس وحفظ القرآن على يد الشيخ المحلاوي. وفي المنزل تعلم القصبجي الصغير من والده فنون الموشحات والأناشيد الدينية والعزف على العود الذي صار أستاذا في فنونه، حتى أطلق عليه مؤرخو التراث الموسيقي «سيد عازفي العود» في القرن العشرين. وعلى الرغم من ممارسة والده للموسيقى الا انه عارض في البداية عمل ابنه في هذا المجال، وسعى كي يعمل في مهنة التدريس التي مارسها القصبجي على مضض لمدة عامين في الفترة من 1915 إلى 1917، فكان في الصباح معلما للجغرافيا والحساب وفي المساء عازفا للعود وملحنا. ولكنه لم يستطع مواصلة تلك الحياة المزدوجة كثيرا، حيث تفرغ للفن منذ عام 1917.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبه محمد القصبجي في الموسيقى العربية بشهادة الموسيقيين انفسهم، الا انه لم يحتل المكانة التي يستحقها دون سبب واضح. البعض فسر هذا بتواضعه الشديد وعدم اهتمامه بتسليط الاضواء عليه بقدر رغبته في الارتقاء بالموسيقى إلى جانب حبه للعزلة وعدم امتلاكه صوتا جميلا، كما كان لدى زملائه من الملحنين مثل سيد درويش والسنباطي وزكريا أحمد. والبعض الآخر قال ان قبوله بأن يكون مجرد عواد في فرقة أم كلثوم رغم مكانته تلك كان سببا آخر في عدم تسليط الاضواء عليه والاهتمام بما قدمه الا بعد وفاته، حتى أنه كان مدرسة لكبار عباقرة الموسيقى الذين أضاءوا الحياة الفنية وأولهم منيرة المهدية «سلطانة الطرب» التي لحن لها العديد من الألحان الرائعة، وكذلك الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي رعاه فنيا لمدة خمس سنوات قبل ان يتبناه أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1924، وعبقري التلحين رياض السنباطي تتلمذ هو الآخر لسنوات على يد القصبجي. وكانت درة تلامذته «كوكب الشرق» أم كلثوم، التي ارتبط بها منذ مجيئها إلى القاهرة عام 1923 ومنحها مجموعة من أجمل الألحان، وظل مصاحبا لها في فرقتها حتى وفاته في مارس (آذار) من عام 1966، هذا غير ألحانه التي قدمها لباقي المطربين والمطربات من أمثال ليلى مراد وأسمهان وكارم محمود وغيرهم. ولا تقتصر أهمية القصبجي على التلحين لهؤلاء المطربين أو تعليم البعض الآخر منهم، ولكن يعود الفضل لمحمد القصبجي في تجديد الموسيقى العربية وتطويرها تماما كما فعل سلامة حجازي وسيد درويش. وهو ما تؤكد عليه الدكتورة رتيبة الحفني التي ألفت كتابا حمل اسم «محمد القصبجي..الموسيقي العاشق» وصدر عن دار الشروق في عام 2006 حيث تقول: «بدأ القصبجي منذ عام 1917 ومعه الموسيقار سلامة حجازي في تجديد نكهة الغناء العربي وإدخال التعبير عليه، وتطوير اللوازم الموسيقية وجعلها جزءا مهما في البناء الموسيقي لا يمكن الاستغناء عنها. ومع تأثره بالموسيقى الغربية أدخل الهارمونيا والبوليفيا على الموسيقى العربية دون تشويه لها وبما يتناسب معها. كما كان له الفضل في إرساء قواعد فن المونولوج العربي في الغناء والموسيقى وكان ذلك في العام 1928».والمونولوج ليس هو الأغنية الساخرة التي تنتقد أوضاعا أو مواقف معينة كتلك التي غناها إسماعيل ياسين أو ثريا حلمي، ولكنه فن عرفته الموسيقى العربية منذ عام 1815 وهو مأخوذ من فن الاوبرا الايطالي، ويغني فيه المطرب أغنية قصيرة تعبر عن ملمح عاطفي تموج به مشاعره. ومن أشهر تلك المونولوجات مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» الذي تغنت به كوكب الشرق أم كلثوم. ومن أروع ما لحن القصبجي وعبر به عن عقليته الموسيقية المتطورة كانت أغنية «الطيور» التي غنتها أسمهان وهي قريبة من الاداء الاوبرالي بعض الشيء ولكنها عبرت عن الرؤية الموسيقية التي كان يمتلكها ذلك الموسيقار. ولتلك الاغنية قصة طريفة ترويها الدكتورة رتيبة الحفني التي تتلمذت على يد القصبجي في صغرها وعلمها العود فتقول: كان لدينا في المكتبة الموسيقية التي كنا نمتلكها في منزلنا مقطوعة موسيقية تحمل عنوان «غابات فيينا» للموسيقار يوهان شتراوس وكانت المطربة التي تغني تلك المقطوعة تقلد أصوات الطيور في نهايتها. وقد استمع القصبجي لهذه المقطوعة أكثر من مرة وأشاد بها وبفكرتها وتأثر بها فأمسك عوده ولحن لحنا مصريا صميما غنته أسمهان أدخل عليه تعدد الأصوات والتوزيع الموسيقي، مراعيا عدم الخروج باللحن من هوية موسيقانا العربية. فالقصبجي لم يقلد ولم ينقل ولكنه تأثر وطور وأبدع. وعلى الرغم من تلحين القصبجي لعدد كبير من المطربات منذ ظهور موهبته في عالم التلحين، الا ان لقاءه بسيدة الغناء العربي يعد تطويرا في أدائه اللحني وبداية التجديد في الموسيقى العربية على حد وصف الدكتورة رتيبة الحفني التي ترى أن إجادة القصبجي وإبداعه الحقيقي لم يظهرا الا بعد لقائه بكوكب الشرق التي قالت عنه قبل وفاتها عند سؤالها عنه: «كان موسيقيا عالما سابقا لعصره بسنوات». ومن بين الدلائل التي تبين مكانة «قصب» كما كانت أم كلثوم تحب أن تناديه، أنها وبعد وفاته ظلت مدة بلا عازف عود، مفضلة الاحتفاظ بمقعده خلفها خاليا حتى اضطرت إلى الاستعانة بعازف العود عبد الفتاح صبري. فقصب لم يكن مجرد عازف عود ولكنه كان عالما فيه حتى انه كان يؤخذ برأيه في مواصفات صناعة العود الذي كان يوصي الا يزيد طول وتره عن 60 سنتيمترا. كما كان عاشقا لتلك الآلة التي كان يخشى ان ينشز بها وهو يعزف عليها وهو الاستاذ فيها. وعلى الرغم من العلاقة القوية التي كانت تربط بين القصبجي وأم كلثوم الا ان البعض يرى ومن بينهم الباحث الموسيقي التونسي الدكتور محمد العلاني أن أم كلثوم كانت سببا في إقلاع القصبجي عن التلحين على مدار 22 سنة تقريبا، حين طالبته بعدم التلحين لأسمهان التي شعرت بمنافستها القوية لها في مجال الغناء، ولكنه رفض فرفضت هي الاخرى الغناء من ألحانه. وبعد وفاة أسمهان عام 1944 عرض القصبجي ألحانه على أم كلثوم فرفضت غناءها ردا على موقفه، فخشي هو أن يخسرها، ما دفعه إلى القبول بموقعه إلى جوارها كعازف عود في فرقتها حتى لو لم يلحن لها. المؤكد لدى الموسيقيين أن القصبجي هو احد مجددي التراث الموسيقي وبخاصة في مجال القصيدة التي ظلت راكدة، تقدم على نحو تقليدي حتى مجيء القصبجي الذي منحها الروح، حيث يرى أساتذة الموسيقى أن تلحين القصيدة قبل القصبجي كان يبدأ بمقدمة موسيقية مثل الدولاب الموسيقي الذي يكون من نفس مقام القصيدة. ولكن مع قدوم المبدع محمد القصبجي بدأ بتأليف مقدمات موسيقية بسيطة كمفتتح للقصيدة ليتنوع بعد ذلك لحنه وتبعه في ذلك غيره من الملحنين مما أدى الى ظهور مرحلة جديدة في أداء القصيدة ليضم التخت الشرقي بين عناصره الكمان والقانون والعود والناي والايقاع وقد وصل عدد القصائد التي لحنها القصبجي إلى 30 قصيدة. الا وانه ورغم إبداعه في هذا المجال، فقد جال القصبجي في جميع أنواع الموسيقى فلحن 4 مسرحيات غنائية من بينها «المظلومة»، و«نجمة الصباح»، كما لحن 13 دورا و182 طقطوقة و43 مونولوجاً إلى جانب 91 أغنية تغنى بها عدد من المطربين فيما قدموه من أفلام بلغ عددها 38 فيلما. ولعل هذا الكم من الأعمال هو ما دفع بالدكتورة رتيبة الحفني إلى القول بتفرد موسيقى القصبجي عما سواها، وتضيف: «لا أجد مثلها في أعمال غيره من الملحنين. أجد فيها أصالة وثراء لحنيا وتلوينا موسيقيا. فمحمد القصبجي بحق يعتبر مدرسة موسيقية جديدة سابقة لعصرها». وفي مارس من عام 1966 توفي محمد القصبجي الذي أثرى الموسيقى العربية في هدوء وبلا أي ضجة تاركا وراءه تراثا يخلد اسمه وفنه بعد أن وهب حياته للفن فقط دون زواج وبلا ابناء.