محمد عبد الوهاب.. موسيقار الأجيال وكروان الشرق
تبناه شوقي وكرمه الملك فاروق وعبد الناصر والسادات
القاهرة نشوى الحوفى
ما بين حفظه للقرآن وتلاوته له دون سن السابعة، وبين التجول في حارات وطرقات حي باب الشعرية. وما بين رغبة الأهل في إلحاقه بالأزهر للدراسة فيه، وبين رغبته في احتراف الغناء. تفجرت موهبة الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي نجح في إكمال الطريق الذي بدأه العبقري سيد درويش، ولم يتسن له إكماله. وليقود عبد الوهاب مسيرة الأغنية العربية إلى أبعد الآفاق فينجح ويسير على دربه الكثيرون من بعده
وللحظ دور كبير في حياة عبد الوهاب، وقد اعترف بذلك في أكثر من حديث صحافي له. كانت المرة الاولى التي حالفه فيها الحظ، عندما كان يغني للأطفال في الحارة كعادته، ومر عليه رجل يدعي محمد يوسف، وكان أحد أعضاء فريق للكورس وأعجب بصوت عبد الوهاب، فطلب منه ان يصحبه ليغني معه في السيرك، الذي كان يجوب محافظات مصر كلها. فوافق عبد الوهاب على الفور وكانت أول مدينة يذهب اليها هي مدينة دمنهور، التي ذهب اليها راكبا علي الحمار، وتقاضي نظير غنائه في هذا الحفل خمسة قروش. كانت أول أجر يحصل عليه في حياته. بعدها قدم محمد يوسف عبد الوهاب الى فؤاد الجزايرلي، الذي كان يمتلك احدى الفرق المسرحية والذي استحسن صوته على صغر سنه فاتفق معه على الغناء كل ليلة في الاستراحة بين الفصول. فذاع صيت عبد الوهاب وامتلأت الشوارع بصوره، الا انها كانت تحمل اسما غير اسمه، لأنه كان يخشى من غضب أهله، إذا ما عرفوا باحترافه الغناء، ولهذا أطلق على نفسه «محمد البغدادي». ووصل أجره في هذه الفترة إلى أربعة جنيهات. ثم ارتفع أجره الى ستة جنيهات، عندما انتقل الى فرقة عبد الرحمن رشدي، وكان ذلك في عام 1920.
وللمرة الثانية يلعب الحظ دوره في حياة موسيقار الأجيال، عندما كان يغني بين الفصول في فرقة عبد الرحمن رشدي، وحضر الى المسرح أمير الشعراء أحمد بك شوقي، واستمع لغناء عبد الوهاب، وتملكه صوته فقرر تبنيه فنيا، وتوثقت علاقتهما الى الحد الذي بات فيه أمير الشعراء يكتب الاغاني خصيصا لعبد الوهاب، وكان أول من أطلق عليه لقب «الكروان».
المتتبع لحياة عبد الوهاب ومسيرته الفنية يستطيع أن يلحظ انها لم تسر على وتيرة واحدة، ولكنها تنوعت ما بين الابداع الشديد في أول حياته الفنية، والتي قدم فيها نمطا جديدا للأغنية العربية، مما دفع الجماهير للالتفاف حوله بعد أن أحست بموهبته التي أبهرت الجميع. ومن بين أغاني تلك الفترة «ياجارة الوادي» و«كلنا بنحب القمر» و«بالله يا ليل تجينا». وهي أغاني صنعت جماهيرية عبد الوهاب. بعد هذه المرحلة، جاءت المرحلة الثانية في مسيرة عبد الوهاب، قدم عبد الوهاب الاغاني الوصفية التي تضمنتها أفلامه السينمائية، واستطاع من خلالها تقديم الحان متميزة لكلمات اعتاد الناس سماعها في حياتهم اليومية، مثل اغنية «يا وابور قول لي رايح على فين» و«ياوردة الحب الصافي» و«حكيم عيون». ثم كانت القصيدة عنوانا للمرحلة الثالثة في مسيرة عبد الوهاب الفنية، حيث اهتم في هذه المرحلة بتقديم القصيدة الطويلة بأسلوب جديد. وعلى الرغم من عدم وجود قاعدة جماهيرية للقصيدة في ذلك الوقت، الا أن عبد الوهاب نجح من خلال اسلوب السهل الممتنع الذي اتبعه فيها في جعل الناس يقبلون على الاستماع لها بشغف. ولعل من أشهر ما لحنه من قصائد «الكرنك» و«الجندول» وكانت في وقتها من الاحداث الفنية المهمة في ميدان الغناء العربي. وتأتي المرحلة الرابعة التي يرى بعض الموسيقيين أنها لم تكن على مستوى ما سبقها من مراحل غنائية، وغني فيها أغنيات من بينها «تراعيني قيراط اراعيك قيراطين». وعلى الرغم من ذلك الا ان هذه المرحلة نفسها هي التي شهدت لقاء السحاب بين ام كلثوم وعبد الوهاب، وقدما معا عددا من الاغنيات بدأت بأغنية «انت عمري»، وتبعتها أغنيات اخرى لا تقل عنها إبداعا منها «أمل حياتي».
الي جانب الغناء والتلحين، كان لعبد الوهاب دور كبير في دعم مسيرة السينما الغنائية من خلال افلامه السبعة، التي قدمها طيلة مشواره الفني والتي قدم أولها في عام 1932 مع المخرج محمد كريم، وحمل اسم «الوردة البيضاء»، والذي كتب قصته كل من سليمان نجيب ومحمد كريم وتوفيق البردلنس، وكتب أغانيه الشاعر أحمد رامي، وقد تم إخراج هذا الفيلم في باريس، لأن مصر وقتها لم تكن تملك استديو للافلام، وتقاضي عبد الوهاب 450 جنيها أجرا عن هذا الفيلم وعرض الفيلم في عام 1933. ونجح نجاحا كبيرا بمقاييس عصره، ليقدم بعدها عبد الوهاب عددا من الأفلام هي «دموع الحب» عام 1935، و«يحيا الحب» عام 1938، و«يوم سعيد» في عام 1940، و«ممنوع الحب» في عام 1942، و«رصاصة في القلب» عام 1944، وأخيرا فيلم «لست ملاكا» عام 1946. إلا أن عبد الوهاب كان يمتلك من الذكاء ما جعله يقرر التوقف عن تقديم المزيد من الافلام السينمائية. فقد أدرك بحسه أن الزمن ليس زمنه، بعد أن ظهر الفنانون الشباب وبدأوا في تقديم نوعية من الأفلام، التي أقبل عليها الجمهور.
أما المسرح الغنائي، فقد شهد عملا واحدا للفنان محمد عبد الوهاب، الا وهو مسرحية «كليوباترا»، التي كان قد بدأها فنان الشعب سيد درويش، ولم يسعفه العمر لإكمالها، فأكملها عبد الوهاب بشكل أبهر كل من استمع لها.
حياة عبد الوهاب الشخصية كانت حياة بسيطة مكشوفة كما يقولون، يملأها الأصدقاء حيث اشتهر بحب المجاملة لكل الناس، فأحبه الناس وأحاطوا به. وكان قد تزوج من السيدة نهلة القدسي، وأنجب منها خمسة أبناء، لم يحترف أحد منهم الفن.
وقد حصل عبد الوهاب على العديد من الجوائز، وكرم من العديد من الملوك والرؤساء. فقد كرمه الملك فاروق والرئيس عبد الناصر، والسادات الذي منحه رتبة اللواء ومنحه الدكتوراه الفخرية. كما حصل على تكريم من الرئيس بورقيبة والملك الحسن الثاني والملك فيصل. ويبقى أن نقول إنه يعود الفضل الى عبد الوهاب في إخراج الموسيقى العربية من بوتقة الموسيقى العثمانية، وفتح الباب أمامها للتمازج مع الموسيقى الغربية، فأخذت منها وأعطتها. فاستحق بحق، لقب موسيقار الأجيال.