متى بدأ العرب يدونون النوتات الموسيقية ؟
إن أول المؤلفات الموسيقية كتبت في آخر العصر الأموي على يد يونس الكاتب
(765) الذي عمل ككاتب للمدينة ، وكان كاتبا وشاعرا مجيدا وحاذقا في صناعة الموسيقى. ألف كتابين " كتاب النغم " و " كتاب القيان "، والعلامة الثاني الذي بحث في الموسيقى النظرية هو خليل بن احمد (791). وكان أشهر علماء البصرة اللغويين وألف أول معجم تحت اسم " كتاب العين " ، وكان كما هو معروف ، أول من ألف قواعد العروض في الشعر العربي ، بالإضافة إلى تأليف كتابين في الموسيقى
" كتاب النغم " و " كتاب الإيقاع " .
سمعت ان العود آلة فارسية .. نقلها العرب عن الفرس .. ؟
صحيح .. لهذا السبب ما زلنا نستعمل الاصطلاحات الفارسية .. ولكن من المفيد أن أذكر انه جرى تطوير أسلوب العزف على العود على يد منصور زلزل (791 ) وابتدع دساتين جديدة على عود جديد حل محل العود الفارسي وسماه الشبوط ( سمك نهري صغير الرأس وعريض في وسطه ) .
اجرى زلزل تعديلا على السلم الموسيقي بادخاله البعد الثالث الاوسط . قال ابن عبد ربه صاحب كتاب "العقد الفريد " : كان زلزل اضرب الناس للوتر ، لم يكن قبله ولا بعده ولا مثله .
اما الشخصية الموسيقية الهامة التي ظهرت وعايشت فترة الكندي وسبقته في البحث والدراسة في نظريات الموسيقى دون ان يتأثر بانجازات الاغريق فهو اسحاق الموصلي ( 767- 850 ) والذي اصبح عميد موسيقيي البلاط ، بعد وفاة والده ابراهيم الموصلي في الفترة الذهبية لهارون الرشيد ، حيث كان اسحاق على قدر كبير من المعرفة في الشعر والادب وعلم اللغة والفقه . وفي ايام المأمون نال اسحاق ، اعجاب المأمون وتقديره حتى قال عنه : " لولا ما سبق على السنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء عندي فانه اولى به واعف واصدق واكثر دينا وامانة من هؤلاء القضاة " (اسحق كان نصرانيا ). وسمح له ان يقف بين زمرة رجال العلم والادب في حفلات الاستقبال وسمح له بلبس السواد ( شعار العباسيين ) وهو امتياز كان مقصورا على العلماء .
وكما قلت سابقا ، عمل اسحاق على جمع النظريات الموسيقية التي جرى استعمالها في زمنه ويذكر له ابن النديم صاحب الفهرست عشرات الكتب من تاليفه خاصة بنظرية الموسيقى تشمل 18 دراسة مترجمة من الاغريقية ( من مجموع 104 مؤلفات في الموسيقى وصلنا فقط 11 ) : يذكر كتاب الاغاني بعض كتب وترجمات اسحق الموصلي عن الاغريقية ، منها : كتاب عن اخبار عزة الميلاد ، اغاني معبد ، اخبار حنين الحيري ، اخبار طويس ، اخبار سعيد ابن مسجح ، محمد بن عائشة ، الدلال ، الابحر , الغريض ، كتاب القيان ، كتاب الزفن ، كتاب الاغاني الكبير .
اذا كان للثقافة الاغريقة تأثيرا على الموسيقى العربية ؟
حقا يمكن القول ان الانطلاقة الثقافية الكبرى بدأت في ايام المامون ، وذلك بنقل علوم اليونان عن طريق الترجمة ، والتي لم يتقيد بها المترجمون حرفيا وانما غيروا وحسنوا والقوا ضوءا جديدا على كل موضوع مترجم . وبعد المأمون اعتلى الخلافة المعتصم ( 823- 842 ) وكان محبا أيضا للفنون والعلوم ، وشجع بصورة خاصة المترجمين عن اللغتين اليونانية والسريانية ... وتوطدت بينه وبين الفيلسوف الكندي علاقة متينة ، ثم جاء الخليفة الواثق ( 842- 847) وكان موسيقيا ضليعا بعلم الموسيقى وضاربا ماهرا على العود ، وانقلب بلاطه الى معهد موسيقي عميده اسحاق الموصلي ، وتواجد فيه كبار الموسيقيين امثال : مخارق – علوية ، محمد بن الحارث وعمر بن بانة .
وتابع الواثق دعمه وتشجيعه للمذهب المعتزلي الذي بدأه المامون وشجع الاداب والفنون الى ابعد حد .
وبموت الواثق عام ( 847 ) انتهت الفترة الذهبية من الحكم العباسي ، في نفس الوقت الذي كانت فيه اوروبا لا تزال متاخرة،وتعد ثقافتها همجية بالنسبة للعرب وانجازاتهم العلمية والثقافية .
باعتلاء المتوكل عام ( 847 ) بدأ بالعودة الى التمسك بشعائر الدين بصورة رسمية ، وحارب فكر المعتزلة وعاد الى السلفية الدينية، فصادر مكتبة الكندي التي اعتبرت مرجعا كبيرا للمؤرخين والعلماء .
وكان الكندي (874) ( ابو يوسف يعقوب بن اسحاق ) قد ولد في البصرة ولقب بفيلسوف العرب ، وكان اول من وجه عنايته الخاصة للظواهر الطبيعية من وجهة النظر العقلية .
الف الكندي ما لا يقل عن 265 عملا تناول فيها جميع فروع المعرفة ، منها 13 بحثا في علم الموسيقى وصلنا منها ستة ابحاث . وجميع ما وصلنا يؤكد لنا المنحى الاخلاقي والكزمولوجي ( الكوني ) والعلاجي للموسيقى . وكان الكندي اول من وضع الموسيقى ضمن العلوم الاربع ( علم الحيل ، الهندسة ، الفلك والموسيقى ) والتي تعد الطالب للدراسات العليا في الفلسفة وتربط الموسيقى بخصائص الكون سواء في نظرية الصوت او الفواصل او الموازين والايقاعات ، او مشاكل التأليف الموسيقي وربط الشعر بالموسيقى . واشار الكندي الى العود واهميته وسماه "آلة الفلاسفة " . ويؤكد تلك النظرة التي آمن بها فلاسفة الاغريق الذين رأوا في الآلة الموسيقية واجزائها صورة للانسجام الكامل الذي يحكم الكون .
كما واشار الكندي الى علاقة الموسيقى بطبائع الانسان الاربع من جهة ، وبالعناصر الطبيعية والكواكب والابراج من جهة اخرى . كما وربط الالحان في نغمات الآلة الى علم معاني الارقام التنجيمية ، وعالج انسجام الالوان والروائح وتأثيرها على نفس الانسان ، وربط بين نغمات السلم السبع والكواكب ، وربط بين بروج الفلك الاثني عشر والملاوي الاربعة والدساتين الاربعة واوتار العود الاربعة .
وهكذا دخلت الموسيقى في عصر الكندي مرحلة جديدة اذ لم تصبح مجرد ظاهرة فنية فقط بل واصبحت ثقافة مكتسبة ، فلم يعد العازف او المغني اداة تطريب بل كان لزاما عليه ان يعرف شيئا عن الشعر والتلحين وجنس النغم ومقامه وايقاعه .
اثرت كتابات الكندي على جميع من لحقه من الفلاسفة والمؤرخين وخصوصا الفارابي واخوان الصفا وابن سينا .