* الجاحظ : " الموسيقى كانت بنظر الفرس أدباً وبنظر الروم فلسفة ، أما بنظر العرب فأصبحت علما "* بغداد في عصرها الذهبى شهدت نهضة وتطور غير مسبوق في تارخ الموسيقى العربية وسائر الفنون والعلوم * فيلسوف العرب الكندي سمى العود " آلة الفلاسفة " * انتقال مركز الحضارة والموسيقى الى الأندلس ... بعد سيادة السلفية الدينية في عاصمة الخلافة بغداد *
يشهد مجتمعنا العربي في إسرائيل حركة إبداع موسيقية واسعة وغير عادية تتمثل بزخم في البرامج الموسيقية وبروز مجموعه كبيرة من العازفين البارعين وأصوات غنائية مثقفة ممتازة .
فقط في الأشهر الأخيرة شهدت مدينة الناصرة مثلا ( ولا اخصص الناصرة عن غيرها من البلدات إلا لكوني من سكان الناصرة وشاهدت البرامج التي عرضت على مسارحها ) شهدت الناصرة برامج موسيقية متنوعة غربية وشرقيه .
كان أبرزها بلا شك حضور فرقة الفلهرمونيا الإسرائيلية بقيادة زوبين ماتا إلى الناصرة وتقديم أول عرض للفرقة في الوسط العربي .
ما لفت انتباهي بروز شباب وناشئين، اثبتوا حضورا موسيقيا ممتازا.
حقا تنشط في عدد من البلدات العربية فرقا موسيقية ، تشكل معلما حضاريا في مجتمعنا ، والملاحظ أن هناك ميل واضح للعزف الاوركسترالي في الفرق الشرقية الجادة.
في الناصرة ننشط منذ سنوات طويلة فرقة الموسيقى العربية ، التي أسسها الموسيقي الأستاذ سهيل رضوان قبل ما يزيد عن عقد ونصف العقد من السنين . وقدمت الفرقة منذ تأسيسها برامجا موسيقية وتثقيفية موسيقية واسعة النطاق ، ويمكن القول أنها تحولت إلى مدرسة موسيقية تحافظ على طهارة الموسيقى العربية يرفض إدخال الآلات الغربية . أي تحافظ على " طهارة " النغمة الشرقية . وكنت قد استمعت الى محاضرة قيمة عن الموسيقى العربية قدمها مدير فرقة الموسيقى الشرقية سهيل رضوان ، لفتت انتباهي بمضمونها الحضاري الهام .. وقررت أن أجري معه هذا الحديث الممتع ، عن الموسيقى العربية .. تاريخها وتطورها .. وأعترف أني استمتعت بالحديث ، وها أنا أنقله للقارئ العربي لما فيه من فائدة ثقافية ومتعة المعرفة .
ما هي التأثيرات الدخيلة ، اذا صح القول ... أي تأثيرات من خارج الثرات العربي ، التي ساهمت في تشكيل التراث الموسيقي العربي ، كما وصلنا اليوم ؟
تأثرت الموسيقى العربية منذ انطلاقتها الأولى بالعناصر الفارسية والبيزنطية . ويظهر أن التأثير الفارسي كان واضحا في أسماء المصطلحات العلمية وأسماء المقامات والدساتين ( الدوسات ) الذي ما زال سائدا في الموسيقى العربية الحديثة.. أي حتى ايامنا ...
بعد تشييد مدينة بغداد عام 762م على يد الخليفة المنصور ، بدأت المدينة بالتطور والتقدم السريع ، لتصبح مركزا حضاريا وثقافيا هاما يعج بالعلماء والأدباء والمؤرخين والشعراء والفنانين , وأصبحت بغداد قبلة الأنظار لرجال الفكر والعلم من جميع أنحاء المملكة الإسلامية الواسعة وحتى من أوروبا .
في عهد الرشيد ( 786 – 809 ) تحوّل بلاطه إلى منتدى لكبار العلماء والأدباء والشعراء والموسيقيين، حيث كانوا يتداولون في مواضيع البلاغة والشعر والتاريخ والفقه والعلم والطب والموسيقى. وانفق الرشيد الملايين من الدراهم على أصحاب الفن من الموسيقيين والمغنين ، مما أدى إلى حسد الشعراء والعلماء .
اذا عدنا الى قصص الف ليلة وليلة ، نجد تصوير رائع لهذه الصورة الساحرة من الحفلات الموسيقية المتألقة والتي شارك فيها كبار الموسيقيين والعشرات من القيان المحترفات في العزف والغناء .... حيث كانوا يرتبون في مراتب وطبقات خاصة في البلاط...
وكان يتم إعداد القيان إعدادا خاصا على يد مقين وبإشراف كبار المغنين ..
حيث كانت تتدرب وتتلقى دروسا خاصة في الغناء والشعر وروايته .
أي كان هناك ربط بين الموهبة والدراسة ؟
بالتأكيد .. كانت تروي الحاذقة منهن أربعة آلاف صوت فصاعدا. في عصر الرشيد تم اختيار المائة صوت ، وقد كلف بذلك ثلاثة من إعلام الفن في عصره.
من هم ، هل اسمائهم معروفة ؟
بالطبع .. إبراهيم الموصلي ، إسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء . قاموا باختيار 100 لحن من ألحان العرب . . ثم طلب منهم الرشيد اختيار عشرة ألحان ثم ثلاثة ..
ويمكن أن نلاحظ هنا نشاط مدرستين موسيقيتين ، المدرسة الرومانسية والمدرسة الكلاسيكية في الموسيقى العربية.
أي أفهم منك أن أصول الغناء المتقن وطبقات الأصوات والسلالم الموسيقية وضعت منذ ذلك الوقت ..؟
هذا صحيح تماما ، في هذه الأجواء الممتعة في بغداد نشأ الغناء المتقن وظهرت روعة الأداء ، ومن المهم أن أضيف ان مجالس الغناء لم تقتصر على بلاط الخلفاء فقط ، بل سادت أيضا المجالس الغنائية في دور الإشراف .. وفي منازل الخاصة ، ودور كبار الموسيقيين التي تحولت إلى معاهد موسيقية . وكانت مجالس الأمراء والموسرين أكثر حرية وبدون ستارة ولا تكليف ، أما مجالس أصحاب القيان فكانت حرة مطلقة.
أما روعة المجالس الغنائية ، بالموسيقيين والمغنين والمغنيات ، فتألقت في بلاط الخليفة حيث كانت تضوع بأريج الطيوب وتعبق بالبخور والند والرياحين المنثورة هنا وهناك ، والخليفة يجلس فوق أريكة وثيرة وفوق رأسه جارية تذب عنه وتراوحه بالمروحة . ومن ورائه ستارة يجلس وراءها المطربون والمطربات والمغنون والمغنيات وقد ارتدوا الملابس الملونة ، ويجلسون في مراتب خاصة حسب مؤهلاتهم ، فمن ضارب على عود وطنبور ودف وزمر ... وأمام الستارة موظف خاص اسمه "صاحب الستارة" ، مهمته تبليغ الفرقة الموسيقية بما يرغب بسماعه الخليفة وصحبه من أغان ، وكان اذا طرب الخليفة وهزته نشوة الطرب واستحسن صوتا طلب إعادة الغناء .
انت تكاد تقول لي أن العرب كانت منفتحة ومتحررة أكثر من أيامنا هذه ؟
اذن اسمع ما نقله لنا المؤرخون ايضا ... يقولون أنه بالإضافة إلى مجالس الغناء ، وفي ليالي بغداد المقمرة في الصيف ، اشتهرت الأغاني التي كانت تؤدي على الحرّاقات التي كانت تنساب فوق نهر دجلة ، حيث كانت تقام السهرات العامة والشعبية الحرة غير المقيدة .. أي بالهواء الطلق وبلا حواجز بين المطربات والجمهور ...
ومن المهم أن أضيف انه في تلك الفترة الذهبية من العصر العباسي ، ومع التقدم الحضاري المستمر ، أصبح المواطن في الدولة العباسية يتطلع إلى الحياة الثقافية والفنية تطلعا جديدا ، وبدأ ينظر إلى الموسيقى كموضوع له قيمته الفكرية والإنسانية ، وأصبحت الغالبية السائدة من الفنانين من ذوي الثقافة الموفورة ، ويجيئني هنا قول للجاحظ ، قال فيه : " الموسيقى كانت بنظر الفرس أدباً وبنظر الروم فلسفة ، أما بنظر العرب فأصبحت علما ".
اثرت شوقي ، وآمل شوق عشاق الموسيقى الشرقية أيضا ، لمعرفة المزيد عن المدارس الموسيقية التي نشأت في بغداد؟
سهيل رضوان: كما ذكرت نشأت مدرستين موسيقيتين .. المدرسة ( أو الحركة ) الرومانسية الإبداعية وقادها ابن جامع والمدرسة الكلاسيكية القديمة وقادها إبراهيم الموصلي . وبعد وفاة إبراهيم الموصلي قاد هذه الحركة ابنه إسحاق الموصلي ، وأصبح من المتشددين والمتعصبين لهذه المدرسة التقليدية.
أما ابن جامع قائد المدرسة الرومانسية فخلفه إبراهيم بن المهدي المقرب للبلاط ، وكان ابن جامع عربيا شريفا من مكة... وكان يحظى بثقافة عالية في الفقه ويحفظ القرآن عن ظهر قلب. ويقول عنه ابن عبد ربه في كتابه المعروف "العقد الفريد" : بالرغم من أن إبراهيم الموصلي كان منافسه إلا أن ابن جامع كان أشهرهما تعرفا بالغناء وأحلاهما وأعذبهما صوتا . وكان إبراهيم الموصلي من الكوفة من أصل فارسي ( 804 ) ولعب دورا هاما في بلاط هارون الرشيد وسماه بالنديم ، ولعب دورا هاما في قصص ألف ليلة وليلة. وأغدق عليه الرشيد المال والجوائز .
أما ابنه إسحاق فقال عنه الأصفهاني صاحب كتاب " الأغاني " : إن إسحاق الموصلي كان يرى في أي تغيير في الغناء القديم ، كما وصل إليه بتقاليده وأساليبه ... جرما شنيعا.
بلاط الخليفة المسلم هارون الرشيد كان الحاضنة لتطوير الموسيقى العربية ؟
ولا بد من الإشارة إلى إبراهيم المهدي ( 779- 839) كان الأخ الأصغر للرشيد ( من أم أخرى ) وكانت له معرفة عميقة بالشعر والعلوم والفقه والجدل والحديث . وقال عنه الأصفهاني : "كان عالما موسيقيا ذا قدرة فائقة ومن اعلم الناس بالنغم والوتر وأطبعهم في الغناء وأحسنهم صوتا " ، وكان هو وإتباعه من كبار المجددين .
وفي كتاب "الأغاني " إشارة إلى حبه للتجديد في الموسيقى والغناء . جاء:
إن إبراهيم المهدي رغم انه كان اعلم الناس بالنغم والوتر وأطبعهم في الغناء وأحسنهم صوتا ، فقد قصر عن أداء الغناء القديم وعن انتهاجه في صنعته ، فكان يحذف نغم من ألاغاني الكثيرة العمل حذفا شديدا ويخففها على قدر ما هو أصلح له ويفي بأدائه ، فإذا عيب عليه أحد ذلك قال : " أنا ملك وابن ملك ، اغني كما اشتهي وعلى ما التذ ".
وقد لحق إبراهيم ابن المهدي جماعه من المتحمسين للتجديد والذين ضموا بينهم بعض المحترفين الذين تحدوا كل القواعد القديمة... أمثال : مخارق وعَلّوُّيَة اللذين بالغا في تحريم الغناء القديم ليبدلاه بأنغام فارسية . ومن ناحية ثانية كانت المدرسة الكلاسيكية القديمة تستخف بالمدرسة الحديثة وتصفها بأنها تتصرف بأقدس القواعد الموسيقية التي تركها لها السلف.
كان الخلاف بين إبراهيم المهدي وإسحاق الموصلي في المسائل المتعلقة بالأجناس والمقامات شديدا. فإبراهيم يسمي الطريقة الأولى ما كان يسميه إسحاق الطريقة الثانية والعكس بالعكس ، وكأن الناس من حولهم لا يفهمون شيئا ، بالطبع لن أتوسع في هذا الموضوع لأنه يخص دارسي علوم الموسيقي وتطورها .. لذلك نتحدث عن الخلاف بشكل عام ، وكان من الحدة الى درجة جعلت إبراهيم يكتب إلى إسحاق يقول : " وعسى من يحكم بيننا ، والجميع حمير " . اي بمعنى لا أحد يفهم بالموسيقى ليحكم من منا على صواب ومن على خطأ .
هناك جانب سلبي لهذا النزاع بين المدرستين الحق الضرر بتطور الموسيقى وتقدمها للأجيال اللاحقة. وبسبب هذا الصراع الفني ضاع الكثير من التراث الموسيقي القديم .
في أيام الخليفة المأمون ( 813 – 833 ) بدا التأثير العلمي في الموسيقى يظهر جنبا الى جنب مع الموسيقى العملية والغنائية وذلك بعد أن قام المأمون ببناء بيت الحكمة في بغداد وبدا بتنشيط ودعم التراجم عن المصنفات اليونانية القديمة . وكان المأمون شخصيا شغوفا بالعلوم الإغريقية حيث جمع في بيت الحكمة خيرة العلماء والمترجمين والمؤرخين ، ومنهم مثلا: يحيى بن أبي منصور وأبناء موسى بن شاكر( محمد واحمد والحسن ) الذين ادخلوا في خدمتهم احد كبار العلماء والمترجمين حنين بن إسحاق ، كما وعمل في بيت الحكمة يعقوب الكندي وثابت قرة والكثير غيرهم . وقد أدى ميل المأمون للمذهب العقلي إلى جعل مذهب المعتزلة مذهب الدولة مما وهب الفكر المستقل حرية واسعة .