الى أي مدى نجح القائمون على الموسيقا العربية في كافة أقطار الوطن العربي في تنظيم المؤسسة الموسيقية خاصة في مجال البعد التربوي والإبداعي؟!
-للإجابة على هذا السؤال المهم لابد من قراءة واقع الانتاج الموسيقي العربي الذي يعكس دون شك الوضع الاجتماعي العربي ودوره في ارتقاء الحياة الموسيقية خاصة مع التطور التكنولوجي المذهل والوسائط المتعددة التي دخلت قلب هذا المجتمع بما أثر في حقيقة الأمر على عملية الانتاج والتلقي بما أفرزت روافد موسيقية بعضها إن لم يكن أغلبها صب في مستنقع الاستهلاك والسطحية بعد أن توفرت له مع الأسف البنية والأرضية
والحامل الذي همش كافة العناوين والصور الإبداعية والتي تماهت مع التقاليد الموسيقية الموروثة بشكل جميل وآسر. هذا الواقع الذي يعكس مواطن الاختلال والظواهر السلبية في الرؤية المستقبلية لصنّاع هذا الفن الذي لم يعد قادراً مع هؤلاء على أداء دوره الإنساني المنشود بما يمكنه من إثراء شجرة الثقافة والمعرفة كما كان دوره في الماضي القريب وكما يحدث عادة في كافة موسيقات الشعوب التي تشبّع مؤلفوها بموروثهم وتقاليدهم الموسيقية العريقة فكان أن تحصنت هذه الموسيقات من أي غزو وافد خارجي عكس موسيقانا التي رأت نفسها عرضة للتغيير ومحو المنجز الإبداعي العظيم لتحل مكانه تهويمات موسيقية أقرب ما تكون الى الهذيان والمجون الموسيقي الذي لم يعد ينفع معه أي دواء أو علاج، ونعود الى سؤالنا الذي ابتدأنا به هذا المقال لنقول إن غياب وتهميش الجانب التربوي الموسيقي في الحياة الاجتماعية والموسيقية أدى الى تأزم وتفاقم الوضع الموسيقي العربي المنهار على اكثر من صعيد خاصة مع تحولات الحياة المعاصرة بما أثرت على مفردات الهوية الإبداعية وفي خلق جيل لاينتمي بكل الأحوال الى تاريخه وإرثه ولغة موسيقاه، وهذا خلق أزمة أخلاقية وتربوية عميقة تؤكدها يومياً وترسخها الممارسات الموسيقية اليومية ذات البعد التجاري الاستهلاكي الذي يثير الغرائز الحسية ويضع الجانب الروحي وإغناء الذائقة على هامش الحياة الموسيقية العربية المعاصرة حيث بات صناع هذا الفن يتاجرون بهذه المفردات في دور مشبوه صنع بعناية في اروقة وكواليس معدة بعناية هدفها القضاء على أي ملمح ابداعي وعلى كل رمز موسيقي يحمل قيم الأصالة والإبداع وتهميشه كلياً، ولهذا قلما نعثر على أي عمل موسيقي إبداعي في المكانات الاعلامية العربية لأن هذه المكانات قامت بالأساس على هذه الفرضية التي تقزم وتهمش كل مايمت الى الإبداع الموسيقي والى الروح العربية المتفردة في الكتابة اللحنية وفي هذا يمكننا القول على نجاح هذه المكانات في إتقان دورها المسموم الذي انعكس سلباً على بنية المجتمع العربي المعاصر حيث انقلبت المفاهيم وغابت القيم لتحل مكانها قيم غربية وافدة عمادها الاستهلاك والآنية وتسليع الانسان وخاصة المرأة، ولننظر بروية الى المشاهد اللاهثة في اغاني الفيديو كليب العربية ولنمعن النظر ملياً في دور المرأة عبره؟! إنها كارثة بكل ما تحمل الكلمة من معنى ونسأل: هل دور هذه المرأة هو فقط في العري والرقص وإثارة الغرائز الحسية؟! وهل يخلو الفيديوكليب عادة من الفتيات العاريات الراقصات ومن إعلاء شأن الصورة التي تترك أثراً عميقاً في قطاع كبير من الشباب العربي اليوم، إنه فن تخديري لايعكس بأي حال من الأحوال واقع المجتمعات العربية!! ونعود الى دور التربية الموسيقية وتفعيلها في مواجهة هذا المد الكاسح من (الاعلانات) الغنائية التي كما اسلفنا تسطح وتعلب المرأة وتقزمها بشكل يدعو للأسى والأسف، انه دور من اعظم الأدوار التي من الممكن أن يحصن الانسان العربي من الثقافات الوافدة الفاسدة التي باتت تعيث فساداً وانهياراً في القيم وفي تهميش القضايا المهمة والجوهرية التي تمس الانسان العربي اليوم وما أكثرها ؟! -إذاً ، كيف يمكننا وعلى ضوء ماهو حاصل في بنية المؤسسة الموسيقية العربية تجاوز هذه العقبات وربط الماضي بالحاضر والتطلع الى المستقبل عبر استغلال أمثل للمكتسبات المنهجية والتكنولوجية المعاصرة والانطلاق من كل ذلك في تطويع ما يصلح منها لتحقيق الأمل المنشود في كتابة مشروع موسيقي مستقبلي انطلاقاً من خصوصيات وتفرد الحضارة الموسيقية العربية سؤال يجيب عنه الباحث الدكتور (محمود قطاط) في بحث منشور حيث يقول :«.. من هنا لابد من اعتبار التراث نقطة البداية كمسؤولية ثقافية وقومية،والتجديد هو إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر.. فالتراث والتجديد يؤسسان معاً علماً جديداً هو وصف للحاضر وكأنه ماضٍ يتحرك، ووصف للماضي على انه حاضر معيش.. فالقضية كما نلاحظ لاتتعلق بالموروث فحسب بل وفي نفس الوقت بمعطى حاضر على مستويات عدة ، ذلك أن التراث حضارة، والحضارة كموقف شعوري، ناشئة بفعل الزمان والمكان فالتراث مصدر للثقافة باعتباره مخزوناً نفسياً موجهاً لسلوك الجماهير وهو موجه نحو الواقع باعتباره أساساً لنظرية ممكنة للتغيير والتنمية- وإذا كانت ثقافتنا مازالت تتأرجح بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، فإن تجديد التراث يعطي لثقافتنا وحدتها الضائعة وتجانسها المفقود. فالغاية هي البحث عن اسباب التوقف التاريخي أو الانحراف الفكري أو الاغتراب الوجداني أو التغيير الحضاري، وهو مايحدث في كل حضارة تضع نفسها موضع البحث وتجدد صلتها بالتراث القديم والواقع المعاصر الأمر إذاً مرتبط بالعلاقة الجدلية القائمة بين التراث والتجديد أي بالوجود الفعلي والواعي للمجتمعات،وهي معادلة صعبة تجمع بين اعتبارين متداخلين: الواقع بوصفه حصيلة للتراث القديم، والتراث القديم من خلال الواقع. موقف ثنائي الأبعاد قامت على اساسه ولاتزال جل المسائل الجوهرية العالقة بتأصيل الحاضر الفكري والثقافي العربي ودفعه نحو التقدم والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي متماسك». - اسئلة كثيرة تنتظر الأجوبة على واقع الموسيقا العربية، هذا الواقع المتأزم الذي بدأت أزماته بالظهور منذ بدايات القرن الماضي حيث الصراع مستمر مابين تيارات الاصالة والموروث وبين تيارات التجديد والحداثة في تقليد يبدو انه امتياز عربي خالص وهو ما تؤكده على الدوام المدرسة الموسيقية العربية خاصة إبان العصر العباسي بما ولد صراعات فكرية وموسيقية بين الأصالة والتجديد ومع ذلك بقيت الموسيقا العريبة وفي هذا العصر ترتقي وتقدم مدارس إبداعية تماهت مع المنجز الابداعي والفكر الفلسفي القديم الذي كتب كما نعلم علوماً ونظريات عظيمة أطرت هذه المدارس التي استفادت بشكل ايجابي من المفردات الخارجية عكس موسيقانا المعاصرة التي لم تأخذ بأسباب التقدم والتطور التكنولوجي إلافي سبيل إرساء قيم سلبية تؤكد على الخواء الابداعي وعلى سيطرة الروح الاستهلاكية على كامل المشهد الموسيقي المعاصر الذي يهمش الروح الابداعية الاصيلة التي كتبت لنا اجمل وأعذب الألحان الخالدة على مر العصور.