التغيرات والتوجهات الموسيقيه

عندما ظهر المغني الأميركي الشهير بوب ديلان على مسرح مدينة مانشستر في شمال إنجلترا عام 1968 حاملا قيثارته، صرخ أحد المعجبين بأعلى صوته قائلا «جوداس» في تسجيل تناقلته العديد من الأفلام الوثائقية التي تتناول التغيرات والتوجهات الموسيقية. الكلمة في الإنجليزية هي اسم أحد تلامذة المسيح، والتي أصبحت تعني «خائن» أو مرتد في الإنجليزية، وكان يقصد بالكلمة التي استخدمت أن بوب ديلان قد خان العهد والتقليد الموسيقي، بأن تحول من العزف على القيثارة الصوتية التقليدية إلى القيثارة الكهربائية، وبهذا فقد خان العهد مثله مثل جوداس الذي خان المسيح.
بوب ديلان رد على هذا الاتهام قائلا إن المتذوقين للموسيقى يريدونه أن يبقى يعزف بأشكال فنية تناسب ذوقهم وليس ذوقه هو، مضيفا أن الموسيقى في حالة من التجديد المستمر وهذه تخلق مذاقات وتنوعاً في الأساليب الجديدة. الحادثة ربما لا تعكس الشيء الكثير في التحولات الموسيقية التي طرأت على هذا اللون من موسيقى البوب، التي شهدت صراعات فنية كبيرة خلال العقود الماضية وعكست ثقافة كاملة سيطرت إلى حد كبير على المشهد الثقافي في العالم الغربي بشكل عام، خصوصا على ضفتي الأطلنطي. ولهذا جاءت أهمية توثيق تطورات المشهد الموسيقي في بريطانيا خلال الستين عاماً الماضية في معرض يعكس هذا، واعتبر المنظمون لـ«60 عاما على التجربة الموسيقية البريطانية» أن نهاية الحرب العالمية الثانية فاصل مهم ونقطة بداية في تطور موسيقى البوب والروك والجاز وغيرها من ألوان الموسيقى الشعبية غير النخبوية والتي تصل إلى أكبر شريحة اجتماعية ممكنة. وبسبب الاستقرار والسلام الأوروبي، جاءت الفترة بثورة حقيقية من الإبداعات والتنوع على الصعيدين الفني والتكنولوجي المرتبط به من خلال الآلات الموسيقية أو وسائل نقلها إلى عامة الناس.
وقال هارفي غولد سميث رئيس هذا المعرض الدائم والمقام في قبة الألفية (قاعة او تو) في جنوب شرقي لندن في تقديمه له: «لقد تمكنا من خلق ثروة هائلة من المواهب خلال الخمسين أو الستين سنة الماضية، فكان لا بد أن نعكس ذلك» في معرض يوثق الفترة وتقلباتها الفنية والسياسية والثقافية ويستفيد منه الصغار والكبار من خلال التكنولوجيا الحديثة المتاحة. المعرض يفتتح يوم الاثنين المقبل، مضيفا أنه يمكن للأجداد ممن عاشروا الخمسينات والستينات من القرن الماضي في أيام شبابهم ورقصوا على دقات آلات وأغاني البيتلز أن يصطحبوا أحفادهم الذين بدأوا هم الآخرون يتمايلون على أنغام وأغاني «سبايس غيرلز» إلى هذا المكان.
إذا كنت في الستين أو السبعين من عمرك أو لا زلت في سن المراهقة، فإن في هذا المعرض ما يكفي لإشباع اهتماماتك الموسيقية، من أصوات البيتلز وداستي سبرينغفيلد وديفيد بووي، إلى فرقة «هو» و«كوين» التي جمعت مئات الآلاف من المعجبين في حفلاتها في الهواء الطلق، إلى «الاويسيس» ويمي وايتهاوس وديزي راسكال. إنه احتفال حقيقي بستين سنة من موسيقى الروك والبوب البريطانية، في معرض كلف ما يقارب 10 ملايين جنيه إسترليني وشهور من التحضير. وتجاوب العديد من نجوم موسيقى البوب والروك، من ليد زيبلين إلى «اويسيس» و«سبايس غيرلز»، وقدموا الكثير من ممتلكاتهم الشخصية من ألبسة وآلات موسيقية وغيرها عرضت في المكان لتعكس التغيرات، خلال خمس حقب من القرن الماضي والحقبة الأولى من الألفية الثالثة، التي طرأت على الموسيقى وعلاقتها بالثقافة والذوق العام والتأثيرات التي أحدثتها في ميادين أخرى مثل الأزياء والتوجهات السياسية. كل واحدة من أعضاء سبايس غيرلز تبرعت بفستان ارتدته خلال حفلاتهن الغنائية.
وجاءت هذه التأثيرات من خلال الأدوات الموسيقية المختلفة التي يتضمنها المعرض، من الروك إلى الريغي والبانك والجاز والبلوز. تاريخ كل حقبة من الحقب تم توثيقه من خلال أكثر من 100 ساعة تسجيل لمقابلات مع مشاهير الموسيقى من نقاد ومعلقين ونجوم الغناء أنفسهم. يبين المعرض أن الحرب العالمية الثانية، كانت نقطة فاصلة في التغييرات والتأثيرات الموسيقية بين بريطانيا وأميركا (1945-1962). تواجد قوات المارينز الأميركية في بريطانيا، لم يجلب معه فقط التحالف السياسي والعسكري بين البلدين وإنما إيجاد جمهور واسع لموسيقى الفرق الأميركية التي انتشرت من خلال بثها على راديو «بي.بي.سي»، وأيضا موسيقى الجاز القادمة من نيو ايرلينز التي غزت نوادي سوهو بوسط لندن. في وسط الخمسينات لعبت موسيقى «الروك أند رول» لبيل هيلي وألفيس بريسلي وتشاك بيري وليتل ريتشارد في نشر هذا النوع من الموسيقى بين الشباب البريطاني الذي بدأ يتمتع بالحرية الاقتصادية المتاحة ويشعر بالاستقرار السياسي مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما فترة (1962–1966) فقد شهدت ما أصبح يسمى بـ«الغزو البريطاني» للولايات المتحدة وللعالم أجمع من خلال فرق «البيتلز» و«رولينغ ستونس» والمغنية بيتيولا كلارك الذين خلقوا حالة من الهستيريا، ولم يفرضوا فقط ذوقا جديدا من الموسيقى (التعددية) وإنما حالة ثقافية كاملة، أزياء وقصات الشعر وغيرها. التنانير بدأت تزداد قصرا، والفنون هي الأخرى بدأت تأخذ أشكالا جديدة وجريئة معلنة ولادة «بوب الفن التشكيلي». لندن أصبحت عاصمة «التمايل» كما أطلقت عليها مجلة «تايم مغازين» في تقريرها في أبريل عام 1966. بعد ذلك (1966-1970) أصبحت التوجهات الموسيقية تأخذ أشكالا سياسية واجتماعية احتجاجية في بريطانيا، خصوصا بعد ظهور الحركة الهيبية والتي تمخـض عـنهـا تجمع «صيف الحب» في سان فرانسيسكو. وبدأ المشهد البريطاني يأخذ أشكالا احتجاجية داعية للسلام وأصبحت المخدرات في متناول الشباب. كما أن نجاح ألبوم «سارجانت بيبيرز» قد أحدث تغييرات في إنتاج الاسطوانات التي أصبحت تصنع على شكل ألبومات. وكردة فعل على تدهور الأوضاع الاقتصادية في السبعينات والثمانينات في بريطانيا، فقد أخذت موسيقى الروك أشكالا سياسية وانخرطت بعض المجموعات في محاربة العنصرية، ونظمت الحفلات الموسيقية تحت اسم «الروك ضد العنصرية».
ومنذ وسط الثمانينات إلى وسط التسعينات، تغير المشهد مع الطفرة الاقتصادية وبروز فئة اجتمـاعـيـة مفرطة في الفردية، وهذه عبرت عن نفسها من خلال امتلاكها لوسائل التكنولوجيا الحديثة والإعلامية والموسيقية. أما الحقبة الأخيرة والأولى في الألفية الثالثة، فقد جاءت لتعبر عن التغيرات الاجتماعية التي وعد بها حزب العمال بعد وصوله للسلطة بعد 18 سنة من حكم المحافظين. وبدأت الفرق الموسيقية تعود ثانية إلى أشكال تقليدية من الموسيقى المعتمدة على القيثارة كآلة أساسية في الأداء الموسيقي. كما أعطت فرصا لمجموعات جديدة من الفرق النسائية أمثال «سبايس غيرلز» تحت اسم «سلطة الفتيات».
ويمكن للزائر الاستماع والتعرف بشكل تفاعلي مع ما هو موجود من موسيقى مسجلة من خلال الأجهزة السمعية والمرئية المتوفرة والمستخدمة فيها التكنولوجيا الرقمية بأحدث أشكالها. كما يمكنك التعرف على أزيائهم وآلاتهم في تلك الفترة، إضافة إلى إنزال الأغاني المفضلة لديك مستعملا تذكرة الدخول التي يسمح لك أيضا استخدامها لاختيار ما تريد سماعه والاحتفاظ به على جهازك الخاص في البيت (التذاكر مزودة بأرقام تسمح لك بدخول الموقع الخاص بالمعرض). أما الشيء المثير، فهو أنه يمكنك تسجيل أغنيتك المفضلة بصوتك مستخدما آلات مثل البيانو والطبول والغيتار بأنواعها المختلفة، إذ وضعت هذه الآلات حسب التغييرات التي طرأت عليها فنيا، والتكنولوجيا تبين العلاقة المتبادلة بينها وبين ما كان يقدم موسيقيا. المعرض الذي يفتتح رسميا يوم بعد غد الاثنين، وسيبقى دائما في إحدى زوايا قبة الألفية، ليس القصد منه التوثيق فقط. لقد تمت مراعاة إبراز الجوانب التاريخية والفنية في تطور موسيقى البوب وإعطاء أجيال المستقبل فرصة بأن يلعبوا هم دورهم في تشكيل التوجهات القادمة لها. ومن خلال ما هو معروض، من أغانٍ وآلات موسيقية وأجهزة مختلفة، مثل الراديو والتلفزيون ولاسطوانات وأشرطة الكاسيت والـ«سي.دي» والفيديو والـ«دي.في دي» وغيرها، يستنتج المنظمون أن هذه التغييرات السريعة التي طرأت خلال الـ 60 عاما الماضية، تعني أن طرق استمتاعنا في الموسيقى لا يمكن التنبؤ بها بسبب التسارع التكنولوجي. الألفية الثالثة جلبت معها عصر التكنولوجيا الرقمية مع ثورة «اي بود» و«اي تيوب» و«إم.بي.3» لإنزال الأغاني، مما جعل بعض الفنانين يقومون بإطلاق أعمالهم الموسيقية وحفلاتهم مباشرة على الانترنت والوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين والمعجبين ومن جميع أنحاء العالم