وبعد المأمون اعتلى الخلافة المعتصم ( 823- 842 ) وكان محبا أيضا للفنون والعلوم ، وشجع بصورة خاصة المترجمين عن اللغتين اليونانية والسريانية ... وتوطدت بينه وبين الفيلسوف الكندي علاقة متينة ، ثم جاء الخليفة الواثق ( 842- 847) وكان موسيقيا ضليعا بعلم الموسيقى وضاربا ماهرا على العود ، وانقلب بلاطه الى معهد موسيقي عميده اسحاق الموصلي ، وتواجد فيه كبار الموسيقيين امثال : مخارق – علوية ، محمد بن الحارث وعمر بن بانة .
وتابع الواثق دعمه وتشجيعه للمذهب المعتزلي الذي بدأه المامون وشجع الاداب والفنون الى ابعد حد .
وبموت الواثق عام ( 847 ) انتهت الفترة الذهبية من الحكم العباسي ، في نفس الوقت الذي كانت فيه اوروبا لا تزال متاخرة،وتعد ثقافتها همجية بالنسبة للعرب وانجازاتهم العلمية والثقافية .
باعتلاء المتوكل عام ( 847 ) بدأ بالعودة الى التمسك بشعائر الدين بصورة رسمية ، وحارب فكر المعتزلة وعاد الى السلفية الدينية، فصادر مكتبة الكندي التي اعتبرت مرجعا كبيرا للمؤرخين والعلماء .
وكان الكندي (874) ( ابو يوسف يعقوب بن اسحاق ) قد ولد في البصرة ولقب بفيلسوف العرب ، وكان اول من وجه عنايته الخاصة للظواهر الطبيعية من وجهة النظر العقلية .
الف الكندي ما لا يقل عن 265 عملا تناول فيها جميع فروع المعرفة ، منها 13 بحثا في علم الموسيقى وصلنا منها ستة ابحاث . وجميع ما وصلنا يؤكد لنا المنحى الاخلاقي والكزمولوجي ( الكوني ) والعلاجي للموسيقى . وكان الكندي اول من وضع الموسيقى ضمن العلوم الاربع ( علم الحيل ، الهندسة ، الفلك والموسيقى ) والتي تعد الطالب للدراسات العليا في الفلسفة وتربط الموسيقى بخصائص الكون سواء في نظرية الصوت او الفواصل او الموازين والايقاعات ، او مشاكل التأليف الموسيقي وربط الشعر بالموسيقى . واشار الكندي الى العود واهميته وسماه "آلة الفلاسفة " . ويؤكد تلك النظرة التي آمن بها فلاسفة الاغريق الذين رأوا في الآلة الموسيقية واجزائها صورة للانسجام الكامل الذي يحكم الكون .
كما واشار الكندي الى علاقة الموسيقى بطبائع الانسان الاربع من جهة ، وبالعناصر الطبيعية والكواكب والابراج من جهة اخرى . كما وربط الالحان في نغمات الآلة الى علم معاني الارقام التنجيمية ، وعالج انسجام الالوان والروائح وتأثيرها على نفس الانسان ، وربط بين نغمات السلم السبع والكواكب ، وربط بين بروج الفلك الاثني عشر والملاوي الاربعة والدساتين الاربعة واوتار العود الاربعة .
وهكذا دخلت الموسيقى في عصر الكندي مرحلة جديدة اذ لم تصبح مجرد ظاهرة فنية فقط بل واصبحت ثقافة مكتسبة ، فلم يعد العازف او المغني اداة تطريب بل كان لزاما عليه ان يعرف شيئا عن الشعر والتلحين وجنس النغم ومقامه وايقاعه .
اثرت كتابات الكندي على جميع من لحقه من الفلاسفة والمؤرخين وخصوصا الفارابي واخوان الصفا وابن سينا .
من مؤلفاته :
- رسالته الكبرى في التأليف ./
- في ترتيب النغم .
- رسالته في الايقاع .
- المدخل الى صناعة الموسيقى .
- خبر صناعة التأليف ( المتحف البريطاني ) .
- رسالته في اجزاء خبرية الموسيقى ( مكتبة برلين الرسمية )
- رسالته في اللحون ( مكتبة برلين الرسمية ).
- كتاب العزم في تاريخ اللحون ( المتحف البريطاني ) .
ابرز تلاميذ الكندي السرخسي ( 899) الذي الف "كتاب الموسيقى الكبير" والذي وصف بانه من اعظم الكتب . وبالطبع أثره أمتد الى العديد من المؤلفات والبحاث العلمية، تأثر به "اخوان الصفا وخلان الوفا" (القرن العاشر ) وهي جماعة سرية عملت في البصرة وكانت تسعى للوصول الى القداسة والطهارة الحقيقية .
المسعودي : (957 ) حجازي الاصل وكان مولعا بالاسفار ، الف كتاب "مروج الذهب " ، فيه فصل خاص عن تاريخ الموسيقى .
ابن سينا وابن زيلة (القرن الحادي عشر )
ابن زيلة – الف كتاب "الكافي في الموسيقى".
وابن سينا "رسالة في الموسيقى" ضمن كتاب "الشفا" وجاء ليكمل انجازات الفارابي .
صفي الدين الارموي ( القرن الثالث عشر ) الف كتاب " الادوار في الموسيقى ".
الرسالة الشرفية في النسب التأليفية .
بالطبع هذا النذر اليسير نفطة من بحر التراث الموسيقي العربي .. وبعدها انتقل مركز الحضارة العربية الى الأندلبس .
سؤال : هل تطورت الموسيقى الأندلسية دون تأثر بالمشرق العربي ؟
سهيل رضوان : أطلاقا لا .. بالرغم من العداء السياسي العميق مع الشرق ،الا ان العلاقات الثقافية والفنية ظلت وطيدة .
في القرن التاسع انتقل الى الاندلس الموسيقي الموهوب زرياب بعد ان كان متواجدا في بلاط هارون الرشيد ، حيث بهرت شخصيته الفذة الخليفة ، فتنبأ له بالتفوق والرئاسة . وفي احد مجالس الغناء امام الخليفة ، رفض زرياب ان يضرب بعود استاذه اسحاق الموصلي ، واخرج عوده واصر على استعماله بحجة انه يختلف في تركيبته عن عود اسحاق ، وتعلق به هارون الرشيد تعلقا شديدا مما اثار حسد اسحاق والذي عمل على ارغامه تحت التهديد بمغادرة بغداد ، فغادر الى قرطبة ووصل هناك عام ( 822 ) حيث اكرمه العاهل الاموي عبد الرحمن الثاني وادخله قصره .
وكان زرياب قد اضاف وترا خامسا الى العود ، واستعمل مضراب العود المصنوع من قوادم النسر عوضا عن الاداة التي كانت تصنع من الخشب ، واسس زرياب معهدا للموسيقى في قرطبه كان له اثر كبير على تخريج المئات من الطلاب الذين اموا المعهد من الشرق والغرب وحتى من اوروبا . وبقي معهده يعمل بعد وفاته بادارة ابنائه وتلاميذه .
ومنذ القرن العاشر انتقل مركز الصدارة في الثقافة والعلوم والفنون الاسلامية من الشرق الى الغرب ، من بغداد الى الأندلس ، وعمت النهضة الفنية والثقافة عدة مدن اخرى اشهرها اشبيلية ( التي لقبت بعروسة الاندلس ) وفيها ازدهرت صناعة الآلات الموسيقية المتقنة .
وترعرع فيها الموشح بعد ان ابدع الفنان الاندلسي اوزانا جديدة وتحرر من الاوزان التقليدية والقافية الملتزمة .
كما واشتهرت بلانسية وغرناطة من بعدها .
في بداية القرن الثاني عشر بدأت حركة نشطة لترجمة المؤلفات العربية في شتى المواضيع العلمية الى اللاتينية ، واشتهرت طليطلة بذلك حيث اقيمت فيها مدرسة خاصة للترجمة ( عمل فيها الكثير من اليهود ) .
يقول فارمر بانه بفضل هذه التراجم العربية تمكن الاوروبيون من التعرف فيما بعد على الكثير من المصنفات اليونانية القديمة التي فقدت . اي ان ثقافتهم ردت اليهم من الترجمة عن العربية .
في القرن الحادي عشر بدأت قلاقل سياسية في الاندلس ولكنها لم تقف عائقا في مسيرة الثقافة العلمية والفنية
في هذه الفترة وجد ابن حزم وابن رشد وابن باجه واطباء كابن زهر ومؤرخون كابن حيان .
اما عن التطور الموسيقي الحديث فنتركه لمناسبة أخرى ...
نبيل عودة –
nabiloudeh@gmail.com