يوجد بلد في العالم الا وبه نخبة حفظت الموسيقى وسعت الى تطويرها ومع احتفاظ هذه النخبة بالخصوصية الموسيقية الا انها وبالنتيجة الطبيعية التي تفرزها الاختلاطات مع الشعوب الاخرى نتيجة السفر والتجارة كانت تقتبس مما تسمح، ولابد لنا ان نفرز ما بين الاصالة والاصلاء الذين طوّروا موسيقاهم عن طريق حفظهم لتراث بلدهم وتطويرهم لذلك التراث وبين الشعوب التي لم تمتلك حضارة موسيقية او تراث يسمح لها بتعزيز تلك الخصوصية، وان من يصنع موسيقى معتمدة على الاقتباس من الدول المجاور تبقى موسيقاه محدودة، لذا ونتيجة التطور الهائل الذي يشهده العالم في هذه الايام يشعر المتتبع بأن الموسيقى تسير نحو التوحد والالتحام وهذه نتيجة طبيعية لكل شعب لا يمتلك خصوصية موسيقية او تراه غير امين على اصالته وتراثه واذا كان المستمع العربي لا يهزه الغناء التركي او الاسباني اوالايطالي فإن ذلك يعود اولاً واخيراً الى الاذن العريقة الممتدة الى آلاف السنين الى الوراء.
والموسيقى علم لا يقبل التطور منفرداً بل يجب ان يصاحب ذلك التطور الطرب والفن في التحام النغمات وتشابك الايقاعات واذا عزلنا التأليف السيمفوني والغناء المسرحي الذي صنعته اوروبا منذ بداية القرن السادس عشر عن الغناء نجده (اي الغناء) يسير على رتم واحد يعتمد السرعة الايقاعية التي تصاحبها الآلات الهوائية الحديثة، واذا قمنا بدراسة للموسيقى الغربية خصوصاً في الدول الواقعة حول البحر الابيض المتوسط نجدها متفقة متوحدة وربما لا يستطيع غير المختص ان يميز بين الموسيقى الاسبانية والموسيقى اليونانية او التركية والدول المجاورة الاخرى رغم ان هذه الدول تمتلك تأريخاً في الموسيقى والغناء الا انها مع ذلك التباعد بدأت تصب في قالب واحد وذلك لاسباب عديدة في مقدمتها: الآلات المستخدمة في التوزيع والتلحين وتقارب الايقاعات ايضاً وربما الحناجر البشرية، ولقد تأثرت الموسيقى التركية باليونانية واختلطت مع الاسبانية وتلاحمت لتعبر الى بقية الدول المجاورة رغم ان للاتراك خصوصية واضحة في التلحين والغناء وقد ذهب البعض الى ان سبب التلاحم يعود الى نشأة الموسيقى في كل هذه الدول التي كانت تعتمد الاهازيج والرقصات والانشاد الديني والطقوس المنبثقة عن المعتقدات المتقاربة في هذه الدول، اما المقامات او النغمات الموسيقية التي وحدت بالثورة الصناعية او ما يسمى بعهد النهضة فهي فهي نفسها في كل الدول الاوروبية.
واذا اردنا ان نقدم دراسة مقتضبة عن الموسيقى في دول حوض البحر الابيض المتوسط فنقول ان النواة التي افسحت المجال للرقي الموسيقي في البلدان المتاخمة لحوض البحر الابيض المتوسط قد تشكلت منذ العصور القديمة في صلب الحضارات المعروفة في بلاد ما بين النهرين ومصر الفرعونية وبلاد فارس. لقد عرفت هذه المناطق الفنون المعمارية والزراعة وعاشت متلاحمة فيما بينها على الصعيد الثقافي ومن ثم فإنها كانت متقدمة على غيرها من شعوب العالم آنذاك والنظام الاجتماعي السائد في تلك العصور كان يعطي الاولوية لطبقة رجال الدين ذلك لأن الدين كان على علاقة وثيقة ومباشرة بالملكية ومن ثم فإن الوظيفة الرئيسة التي اسندت للموسيقى كانت تتمثل في الانشاد الديني اولاً وقبل كل شيء، وغني عن القول بأنه الى جانب هذه الوظيفة الدينية للموسيقى وجدت موسيقى شعبيه دينية، ان الاشكال الموسيقية في مجموع هذه البلدان والذي بقي فيها بعض الاثار ترتبط اساساً بالأناشيد الدينية والاغاني وغيرها من الالحان التي تمجد بعض المقدسات المحلية وتنطوي على بعض الممارسات ذات العلاقة بدافع شرور السحر والشعوذة، وعلى العكس من ذلك فإنه يبدو ان موسيقى الرقص في مصر احتلت الصدارة ومن جهة اخرى فهنالك العديد من اشكال الفسيفساء التي تمثل المتحاربين وهذا ما يشير الى المكانة الهامة التي خصصت للموسيقى العسكرية، وهذه الممارسات الموسيقية كلها تطلبت بحوثا متواصلة ادت الى تحسن وتقدم معتبر بالقياس الى الوضع السابق على العصر الحجري والجديد وادت الى اكتشافات في مجال علم الآلات الموسيقية والى تطوير اللغة الموسيقية في مجال السلم الموسيقي بوجه خاص.
ومن المؤكد حسب البحوث الاخيرة حول الآلات الموسيقية القديمة ان السلم الموسيقي القديم السباعي قد شكل ابان ذلك العصر وذلك بالتغلب على السلم الخماسي اما علم الآلات الموسيقية فانه تطور وتنوع حسب الآلات من وترية وآلات نفخ وايقاع ويبدو ان مختلف التشكيلات الآلية الموسيقية الموجودة في ايامنا هذه قد ولدت في ذلك العهد وقد استفادت الموسيقى اليونانية القديمة من كل هذه الروافد الثقافية والموسيقية وبوجه خاص من تلك الحضارات الاولى التي ولدت في الجانب الشرقي من حوض البحرالابيض المتوسط، ولقد اثرت الحضارة المصرية القديمة على حضارة جزيرة كريت في المجال الموسيقي وكذلك على ايطاليا في عهد الاتروسك ناهيك عن تأثير الحضارة اليونانية في الاقاليم المتأثرة بها.
هذه اطلالة على التقاليد الموسيقية وكيف انتشرت عبر البلدان المتاخمة لحوض البحر الابيض المتوسط، وبمجيء الاسلام ازداد هذا التراث الموسيقي تطوراً وثراء بفضل البحوث التي اضطلع بها علماء الموسيقى من عرب وفرس وترك وبالفعل فالموسيقى العربية مدينة لهؤلاء كلهم وقد صارت دمشق في العهد الاموي وبغداد في العهد العباسي وعواصم الممالك الاسلامية في الشرق والغرب منارات للاشعاع الموسيقي، وخلال الفترة الممتدة من القرن السابع الى القرن الثاني عشر الميلادي حلت الخصوصيات الموسيقية العربية الاسلامية محل التأثيرات والممارسات الموسيقية اليونانية والبيزنطية وقد ازدادت هذه الموسيقى ثراء على اثر الفتوحات وخلال الحروب الصليبية في مختلف مجالات النظرية الموسيقية والاشكال والاساليب التعبيرية الجمالية وعلم الآلات الموسيقية وادت بدورها الى اثراء الثقافة الموسيقية في بلاد الغرب الاسلامي حيث تطورت الموسيقى الاندلسية وتم التأثير على جنوب فرنسا وايطاليا الجنوبية وصقلية وسردينيا ونتج عن ذلك كله موسيقى التوربادو التي كانت المنطلق الأول للفنون الغنائية الاوروبية، اما في المناطق السلافية وخاصة في بلغاريا ويوغسلافيا الى حدود رومانيا فإن الثقافة الموسيقية التركية بما في ذلك الموسيقى الشعبية هي التي مارست تأثيراتها.
ان الموسيقى العربية انتشرت وشاعت في اوروبا واثرت فيها وخاصة في شمالها في انجلترا والمانيا وذلك بعد بروز الشعر الغنائي وخلال هذه الفترة كلها لم تكن الثقافات الموسيقية الدنيوية منها والدينية في الشرق والغرب تعرف الموسيقى اللحنية اي الخط النغمي الذي تصاحبه الايقاعات والنقر، وادت نشأة البوليفونية وتطورها الى القطيعة في ذلك التلاحم الموسيقي للعديد من الشعوب بحيث ان الغرب وصل بمفرده لطريقه على اساس الكونتربواتت ثم الهارموني، اما التأثير الشرقي فجعل يظهر بين الوقت والآخر في الفنون الغنائية التي تدور حول حدث ما او وضع ما ذي طابع شرقي ومنذ ذلك العهد صارت الموسيقى الشرقية تذكر على انها شيء من طابع الغرابة مثلما هو الشأن بالنسبة لمقطوعات موزارت وخليفة بغداد ولبا لديو الفرنسي واوبرا معروف لرابو وأوبرا شمشون ودليلة وديجايترلسان سانس والليث الجزائرية في المجال السمفوني والليلة الفارسية والايطالية في الجزائر لروسيني وعايدة لفيردي، لقد تواصل التطور الموسيقي الغربي باستثمار النظام الصوتي مما ادى الى نوع من المأزق على الصعيد الجمالي في مضمار الابداع الموسيقي الغربي وواصل المؤلفون الموسيقيون استخدام انظمة وصوتية اخرى (البوليتوناليزم) و(الدوديكافونيتزم) و(الاتوناليزم) بما في ذلك موسيقى الاحوال الذاتية وذلك على الرغم من تلك العودة الخجولة الى طريق الكتابة الموسيقية التي سادت بعد الفترة الكلاسيكية ويذكر ان الفنان الباحث الكبير (رولان دي كوندي) قال عن هذه المرحلة في مجال الموسيقى الحديثة في القرن العشرين تنطوي ولا شك على خصائص معينة لا مثيل لها في الماضي من قبل تنوع النزعات واعادة النظر في المبادئ الاساسية وانعدام التواصل المستمر او المباشر وهذه كلها رسائل نشر هائلة بحيث يمكن بفضل التحكم فيها توجيه الثقافة الجماعية والتأثير على التأريخ بطريقة لصطفاء اعتباطي.
اما نحن فنرى ان الموسيقى في هذا العصر الذري تفتت، اذن ما الذي تؤول اليه موسيقى البحر الابيض المتوسط واي البلدان التي حافظت على تقاليدها الموسيقية؟ وامام هذا التطور التكنولوجي الهائل المريع والذي يشهده الغرب ويتمثله بطريقة فوضوية وعدائية وحيث لا يحتل الطابع الانساني الا مكانة صغيرة فإنه من الصعب التنبؤ بما سيكون عليه مستقبل الموسيقى ذات الحظ النغمي الواحد بكل ما ينطوي عليه هذا الخط من خصائص لحنية وايقاعية.